يتّصل بالإنترنت نحو 5.3 مليارات شخص حول العالم وفقًا لـ"ستاتيستا" (Statista)، وقد أصبح التواصل بين الأشخاص، سواء للعلاقات الشخصية والأعمال أو العلاقات التجارية، تواصلًا افتراضيًا يجري عبر الإنترنت. ونتيجة ذلك، انغمست عشرات الآلاف من المنظمات في برامج التحول الرقمي للاستفادة من طرق التواصل الحديثة هذه. يشير توقّع آخر من "ستاتيستا" إلى وصول الإنفاق العالمي على تقنيّات التحول الرقمي إلى 2.5 تريليون دولار أمريكي هذا العام، وأنّه سوف يرتفع إلى 3.4 تريليونات دولار أمريكي بحلول عام 2026. تسمح تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، كالذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وغيرها، للشركات بالتغلب على الأزمات العالمية وإعادة تشكيل قطاعات بأكملها.
المملكة تتصدر التحول الرقمي
بينما تبني المجتمعات اقتصادًا وعالمًا رقميًا، وابتكارًا تلو الابتكار، تتصدّر المملكة العربية السعودية طليعة هذا التحول. قدّمت رؤية 2030 مخططًا للتّقدم المستدام بحيث بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي 5% في عام 2023. وساهمت مجموعة من المشاريع التكنولوجية المنفّذة كجزء من هذا التحول في دفع البلاد إلى قمة المؤشرات الدولية، بما في ذلك المرتبة الثانية في تقرير التنافسية الرقمية من "مجموعة العشرين" في عام 2021، والمرتبة الثانية مؤشر الأمن السيبراني العالمي 2022 من "الاتحاد الدولي للاتصالات".
وصلت قيمة الاقتصاد الرقمي للمملكة بحلول نهاية عام 2023 إلى 40 مليار دولار أمريكي، بحيث تم توفير حوالي 318 ألف فرصة عمل، ويتهيأ الآن لمزيد من الاستثمارات التي تناهز 25 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025.
أكثر مجال يبرز فيه التقدم الرقمي في المملكة هو مجال الذكاء الاصطناعي، حيث اتّخذت الحكومة خطوات جريئة لتشجيع مؤسسات القطاعين الخاص والعام على تبنّي الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة، بهدف دفع التنوّع الاقتصادي وإيجاد فرص العمل وتعزيز التنمية الاجتماعية. يتضمّن هذا الالتزام في دعم المبادرات والبرامج المختلفة التي تشجّع القطاع العام على اعتماد الذكاء الاصطناعي والاستفادة من تحليل البيانات لاتخاذ قرارات مدروسة.
تتصدّر وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات (MCIT) هذه الجهود، وتتمثّل إحدى أبرز مساهماتها في المؤتمر السنوي لبرنامج "ليب" (LEAP) الذي يعمل كمنصّة رئيسية لمناقشة مستقبل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تجذب هذه الفعالية خبراء ومبتكرين عالميين، وتوفّر فرصًا لتسهيل التعاون بالإضافة إلى عرض التطورات التي تعزز مكانة المملكة العربية السعودية في مجال الذكاء الاصطناعي.
خطوة أكبر
قطعت المملكة العربية السعودية خطوات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، حيث جعلت نفسها مركزًا عالميًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة. وتحت قيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، أنشأت المملكة مركز التميّز للذكاء الاصطناعي التوليدي في عام 2023، بهدف إطلاق إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي والاستفادة من المحتوى والابتكار الناتجين عن الذكاء الاصطناعي.
وفي عام 2023، أصدرت "الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي" (سدايا) دليلًا مفصّلًا حول الذكاء الاصطناعي التوليدي يوفّر نظرة شاملة على عملية تطوير نموذج ذكاء اصطناعي توليدي. تهدف هذه الخطوة إلى زيادة الوعي المحلّي والدولي بشأن أهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي في تشكيل مستقبلنا الرقمي بطرق فريدة وغير تقليدية. أظهرت المملكة من خلال هذه المبادرة تفانيها في استغلال قوة الذكاء الاصطناعي التوليدي لتعزيز التواصل وتعزيز فعالية الأداء في مختلف المجالات.
بالإضافة إلى ذلك، استحوذت المملكة العربية السعودية، وفقًا لتقرير "فاينانشيال تايمز"، على 3 آلاف وحدة من رقائق H100 من Nvidia، المصممة خصيصًا للذكاء الاصطناعي التوليدي، عن طريق "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ". تعزز هذه الرقائق قدرات المملكة في تعزيز الابتكار المدفوع بالذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات.
الذكاء الاصطناعي العربي
أطلقت المملكة تسمية عام الشِعْر العربي على عام 2023 لتسليط الضوء على أهمية الأدب العربي ومضمونه وتأثيره على جميع البلدان الناطقة باللغة العربية. لا يتوقف التركيز على المحتوى العربي في المملكة على القصائد التاريخية التي بنت هوية المتحدثين بالعربية، بل يتضمن كذلك المجالات الحيوية للّغة العربية، في وقت ينصبّ التركيز الرئيسي على البيانات الرقمية العربية التي تدعم الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي. وبدورنا، نؤكد في "مُزن" أنّه من دون البيانات، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يزدهر.
في مجال الذكاء الاصطناعي، لا سيما الذكاء الاصطناعي التوليدي، نشهد للأسف اتجاهًا عالميًا لتعظيم إمكانات اللغات اللاتينية وإهمال البيانات والمحتوى العربي. من مِنّا لم يطرح سؤالاً على "تشات جي بي تي" (ChatGPT) باللغة العربية ليأتيه رد غير دقيق ومضحك أحيانًا؟
الذكاء الاصطناعي العربي هو سوق متخصص مليء بالفرص، والمملكة العربية السعودية تمهّد الطريق لتصبح أوّل وأكبر مصدِّر للذكاء الاصطناعي العربي من خلال تمكين الابتكار لدى القطاعين الخاص والعام، وبناء البيانات العربية محليًا، وصولًا إلى تسليط الضوء على هذه البيانات كأولوية دولية لأكثر من 350 مليون متحدث باللغة العربية.
تستخدم أكبر الكيانات الحكومية في المملكة الذكاء الاصطناعي العربي لوضع الميزانيات، وإنشاء المحتوى التعليمي العربي المخصّص، وبناء مركز معزّز بالذكاء الاصطناعي لدعم القرارات، ممّا يدفع بالمملكة العربية السعودية لتصبح من أكثر الدول المتقدمة رقميًا في العالم.
تتماشى هذه الإنجازات والأهداف الطموحة الملموسة مع رؤية السعودية 2030، ممّا يضع المملكة العربية السعودية في مرتبة رائدة عالميًا في تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدّمة، في حين تهدف المملكة إلى أن تصبح قوّة تكنولوجية عالمية من خلال تبنّي الذكاء الاصطناعي التوليدي، ورائدة في المحتوى والابتكار والبحوث.
المسؤولية تساوي الازدهار
منطقة الشرق الأوسط مهيأة لـ"تأثير اقتصادي" بنحو 320 مليار دولار أمريكي ناجم عن الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وفقًا لشركة "بي دبليو سي" (PwC)، والمملكة العربية السعودية هي المستفيد الأكبر. قد يساهم الذكاء الاصطناعي في المملكة بما يصل إلى 135.2 مليار دولار أمريكي في الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد الحالي.
تُظهر هذه التقديرات وغيرها أنّ مستقبل دمج الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية مضمون تمامًا، ولا يبقى إلّا توجيه جميع الجهات في مجال الذكاء الاصطناعي لتتصرّف وفقاً لمصلحة المجتمع ككلّ.
يجب علينا جميعًا كعاملين في مجال الذكاء الاصطناعي أن نؤدّي الدور المطلوب منا، وأن نتبنّى أعلى معايير الحوكمة لحماية خصوصية البيانات والقضاء على التحيّز والنتائج الأخرى غير المرغوب فيها من نماذج الذكاء الاصطناعي. في الختام، التعاون هو الأساس لتعزيز رؤية المملكة الاقتصادية وقيمها الثقافية وبناء مستقبل أكثر شمولًا وازدهارًا للعالم بأكمله.