قد نرى نمطًا من الحاجات الإنسانيّة، التي تجعل الإنسان يكتسب مهاراتٍ جديدة، فالحاجة أمّ الاختراع، والاختراع يحتاج إلى مهاراتٍ عدّة، وكلها تصبُّ في إشباع رغبات الضرورة. وخلال العصور السابقة، اضطرَّ الإنسان، بدل أن يُتعِبَ نفسه يوميًّا بالصيد؛ لاكتساب مهارة الزراعة، وعندما أصبحت الزراعة منتشرةً، اكتسبوا مهارة الحساب، وحفظ المخزون، حتى يكتفون بما زرعوا حولًا كاملا، وكلُّ ثورةٍ حديثةٍ تأتي بمهاراتٍ جديدةٍ كليًّا؛ للمحافظة على ضرورات حياة الإنسان. هذه المقالة ستناقش المهارات الأساسيّة التي ستساعد من يريد الانضمام لبناء الثورة الصناعيّة الرابعة، وهي بذلك تُعبّرُ عن مهارات المستقبل.
ما يُحدّد الثورات الصناعيّة، هو مدى سرعة تغيّر التقنية للإنتاج والاستهلاك، والثورة الصناعيّة الرابعة ليست كمثلها من الثورات الثلاث السابقة؛ لأنَّ تطوّر التقنية بالنسبة للزمن في جميع الثورات السابقة كان تطوّرًا خطيًّا، بينما الآن نشهد تغيّرًا غير خطّي، وهذا يدلُّ على أنَّ التقنية قد تسارعت في التطوّر، لذلك أطلق الناس عليها الثورة الصناعيّة الرابعة. فنرى في عام 1970م أنَّ التقنية لم تكن تُساعد بعد على إنتاج كميّاتٍ كبيرة من الترانزستور، ولم تُنتج المصانعُ سوى ألفي قطعةٍ منه، بينما في عام 2020، أُنتِج حوالي خمسين مليار ترانزستور، لأنَّ التقنية تطوّرت، وواكبت الاحتياج. ومما عزّز إنتاج الترانزستور على المستوى العالمي، التغيّر السريع في أنظمة الإنتاج، والإدارة والحوكمة. (Klaus Schwab. 2016. The Fourth Industrial Revolution).
وبما أنَّ الثورة الصناعيّة تتمحور حول التغيّر السريع في أنظمة الإنتاج، والذي يتمثّل في التحوّل الرقمي؛ فإنَّ مهارة البرمجة غدت مطلوبةً بشكلٍ كبيرٍ في سوق العمل. فحسب إحصائيّات مكتب العمل في الولايات المتّحدة، من المتوقّع بحلول 2030، أنَّ الطلب على الوظائف التي تتعلّق بمهارات البرمجة الحاسوبيّة ستزيد بنسبة 22% فوق المعدّل المتوقّع. (U.S. Bureau of Labor Statistics. 2019. Software Developers). وهذا يعني أنَّ مهارة البرمجة تُساهم بشكلٍ كبيرٍ في بناء الثورة الصناعيّة القادمة، لتطوير الإنتاج.
أضف إلى ذلك، أنَّ المملكة العربيّة السعوديّة، في ظل رؤية 2030، أنشأت الهيئةَ السعوديّة للبيانات والذكاء الصناعي، والتي تُعنى بحوكمة الذكاء الاصطناعي والبيانات داخل المملكة لمواكبة الثورة، وقد وظِّفَ عددٌ كبيرٌ من مهندسي البرمجيّات، مع الحرص على توعية الشباب لتطوير المهارات البرمجيّة لديهم.
وبما أنَّ إضافة الذكاء الصناعي للشركات وجعلها أكثرَ كفاءةً جزءٌ من الثورة الصناعيّة الرابعة، والذكاء الاصطناعي يحتاج إلى مهاراتٍ برمجيّة، فلذلك يتزايد الطلب عليها. ومن المهارات المطلوبة في سوق العمل القادم المهارات الناعمة، والتي تتمحور حول القدرة على التواصل وإيصال المعلومات بأسهل طريقة كاستعمال الشرائح التصوّريّة، وبرامج الجداول للتخطيط.
وحسب إحصائيّات "ثقة العالم" فإنَّ 93% من الشركات في القطاع الخاص يصنّفون وجود المهارات الناعمة للمتقدمين للوظائف إمّا "جدًّا هامّة" أو "أساسيّة" للقبول. وهذا يعني أنَّ معظم المتقدمين يحتاجون إلى وجود المهارات الناعمة للدخول إلى تلك الوظائف المتعلّقة بالثورة الصناعيّة الرابعة. (Soft Skills Facts & Stats. 2021).
وبما أن من أساسيّات الثورة الصناعيّة الرابعة تطوير الجانب الإداري، والتخطيط والكفاءة في الأداء كجزءٍ من الإدارة الحسنة، وهما أيضًا جزءٌ من المهارات الناعمة، فلذلك لهم دورٌ في بناء الثورة الصناعيّة الرابعة.
والحوكمة أساسًا هي التي تنظّم سير العمل، وتجعله أكثر كفاءة، والشركات في القطاع الخاص تحرص على وجود مهارات الحوكمة لدى الموظّف. ومن الأدلّة التي تدعم وجود الحوكمة كجزءٍ من مهارات الموظّف، أنَّ المملكة قررت أن تجعل كلَّ الأجهزة الإداريّة والوزارات تُدار بأسلوب حوكمةٍ محدّد، ووفقَ سياساتٍ معيّنة حتى تساعد في رفع كفاءة الوزارة.
لأنَّ الثورة الصناعيّة الرابعة تعتمد على تطوّر التقنيات المتعلقة بالبيانات، وتحتاج نوعًا من أنواع الحوكمة، فهناك مهاراتٌ لحوكمة البيانات من إدارة بيانات، وتنسيق نُظُم المعلومات، وضمان المعلومات، وإدارة العلاقات، والتخطيط الاستراتيجي لها، وكل هذا يندرج تحت الحوكمة المعلوماتيّة.
وممّا لا شكَّ فيه، أنَّ الجائحة الأخيرة (COVID-19) فتحت أعين روّاد الأعمال على مستقبلٍ مشرق؛ فصرنا نلاحظ أنَّ السفر من أجل الأعمال قلَّ بشكلٍ ملحوظٍ في ظلِّ الجائحة، وأصبحت الاجتماعات والمقابلات تُدار عن طريق برامج التواصل والاتصال الافتراضي، فسهّلَ ذلك الوصول للاجتماعات ورفع نسبة الانضباط فيها، وأصبحت مشاركة المحتوى أكثر سلاسة، وأصبح الموظّفون المتفاعلون في الاجتماعات الافتراضية أكثر حرصًا على تخليص الأعمال؛ لضمان حُسن أدائهم، ورفع تقييمهم السنوي.
وختامًا أقول: في كلِّ ثورةٍ صناعيّة، تكون هناك مهاراتٌ أساسيّةٌ لتلبية احتياجات الثورة، والثورة الصناعيّة الرابعة ليست كمثلها من الثورات، فهي تحتاج نوعًا حديثًا من المهارات. ومن تلك المهارات، المهارات المرتبطة بالبرمجيّات والحاسب، والمهارات الناعمة، والمهارات التي تساعد في صنع نوعٍ من الحوكمة المعلوماتيّة داخل المنظومة، ومهارات التعاون الافتراضي، وكلُّ هذه المهارات لم تكن مطلوبةً في الثورات السابقة، لكنها اليومَ تغذّي تلك الاحتياجات وبشكلٍ كبير.
المراجع