في أواخر الثمانينيّات من القرن الماضي ظهر مصطلح القوّة الناعمة، وأوّل من أشار إليه أحد منسوبي جامعة هارفارد، العالم السياسي الأمريكي جوزيف ناي. ويمكن تعريف هذا المصطلح بأنّه وسيلةٌ أو وسائل من خلالها يحقّق شخصٌ ما، أو مجموعةٌ ما يرغبون بتحقيقه دون استخدام العنف المباشر أو غير المباشر. تُمارس القوّة الناعمة في مناحٍ مختلفةٍ وبسياقاتٍ متباينة، فمثلًا المربّي الناجح يحرص على تعلّم وممارسة المهارات الناعمة في تربية الأبناء لا سيّما المراهقين. وفي جانبٍ وبُعدٍ آخر مختلف، تمارس الدول سياسيًّا القوى الناعمة وتدرك تمامًا مدى جدواها، ويمكن وصف أهميّتها بأنّها سياسةٌ موازيةٌ لبقيّة السياسات في مواجهة الأعداء وتحييد الأخطار داخليًّا وخارجيًّا.
لماذا الثقافة والفنون؟
"التطرّف يتعلّق بالفكر، فيما يرتبط الإرهاب بالسلوك والفعل، ولا يمكن لشخصٍ أن يتحول إلى العمل الإرهابيِّ دون أن يعتنق الفكر المتطرّف. وبالتالي، تكون المواجهة الثقافيّة والفنيّة مقدّمةً على محاربة الإرهاب؛ لأنَّ الفكر المتطرّف بداية تشكيلِ الإرهابي، فإذا استطعنا مواجهة الأفكار المتطرّفة والمتشدّدة في البداية تمكنّا من القضاء على الإرهاب في مهده".
الثقافات والفنون قوىَ ناعمةٌ تقوم بانتزاع بذور العنف لدى الإنسان وتدعو إلى غرس بذور التسامح والتعايش والاعتدال في نفسه وتهذيبها. كما تدعو إلى تعزيز التواصل والتعاون والتقارب الإنساني والحضاري، مما يدعو إلى وجود المزيد من العوامل المشتركة بين البشر على مستوى المجتمعات في الدولة الواحدة ثمّ على مستوى الدول والحضارات.
يدعو الفكر المتطرّف إلى نقيض ما ذُكِرَ أعلاه؛ فوجود ما يدعو للحياة ويرفع من قيمتها خطرٌ لا يحتمله الفكر المتطرّف، فهو لم ولن يقنع يومًا بالثقافات والفنون، بل يعدُّها أخطارًا مهدّدةً له، ويعمل جاهدًا في معاداتها وتقبيحها وتحييدها بوسائل شتى حتى يحقّق ما يسعى إليه من أهدافٍ كاستلاب العقل والعنصريّة والإلغاء التامِّ للآخر ونشر الكراهية والعداء وغيرها.
أمثلةٌ على فنونٍ حاربها الفكر المتطرّف
الفكر المتطرّف في المملكة العربيّة السعوديّة: في عقودٍ مضت قام التطرّف الدينيُّ جزافًا بمحاربة معظم الفنون. فعلى سبيل المثال حورب فنُّ الرّسم وخصّيصًا رسم ذوات الأرواح من إنسان وحيوان، وحُوربت الموسيقى كذلك ووصِفت بأبشع الأوصاف ونُسبت إليها أوهامٌ لا يمكن للعقل الواعي استساغتها وقبولها.
الفكر المتطرّف في العراق: قامت داعش بتدمير إرثٍ إنسانيٍّ فأبادت الآثار الفنيّة التاريخيّة في متاحف مدينة الموصل وغيرها.
الفكر المتطرّف في أفغانستان: في أفغانستان يُحارب الفنُّ وأهله ويمارس عليهم الإرهاب من قبل طالبان. ما أثر محاربة الثقافات والفنون؟
آثار محاربة التطرّف للثقافات والفنون متنوّعةٌ وعديدةٌ محليًّا وعالميًّا ولا يسعني سوى ذكر بعضٍ من هذه الآثار والمآلات، ففي الدول التي حُوربت الثقافات والفنون فيها نتيجة الآراء المتطرّفة نجد قصورًا كبيرًا في تعليم الفنون؛ فعلى سبيل المثال محليًّا في المملكة العربيّة السعوديّة تأخّر تعليم الموسيقى في المدارس والجامعات، فقد بدأ تدريس الموسيقى لأوّل مرّةٍ كتخصّصٍ جامعيٍّ في جامعة الطائف في عام 2019، وفي المدارس في عام 2021 أعلنت وزارة التعليم تفعيل مناهج الموسيقى.
كذلك يوجد عددٌ كبيرٌ من الأسر التي تمنع أبناءها من الاستماع للموسيقى أو تعلّمها وممارستها، وإن أقدم أحدٌ من الأبناء على مواجهة هذا المنع فغالبًا يُمارس عليه عنفٌ أسريٌّ قد يكون نفسيًّا أو جسديًّا وهذا عاملٌ من عوامل التفكّك الأسري. كذلك تمّ التحذير من زيارة الأماكن الأثريّة التي عاشت بها أقوام سابقين كمدائن صالح ومدين الواقعة في شمال غرب المملكة العربيّة السعوديّة، ونعتها بأنّها أماكن أقوامٍ معذّبين، وتأثيم من يقصدها ويزورها؛ مما أدّى إلى تأخير تقدير هذه الأماكن الأثريّة حقَّ قدرها والانتفاع منها علميًّا واقتصاديًّا.
وفي شقٍّ آخر من العالم، في أفغانستان تحديدًا، نرى الفنّانين في حالة هلعٍ وقلقٍ شديدةٍ نتيجةَ تولّي طالبان للحكم، الأمر الذي جعل مصير هؤلاء مجهولًا، وقد يلجأ كثيرون منهم إلى تدمير ما قام بإنتاجه من إنتاجٍ فنيٍّ والتخلّي عن مواهبه الفنيّة، أو يلجأ بعضهم إلى الهجرة وترك ديارهم في سبيل الخلاص من الأخطار المتربّصة بهم. في نهاية شهر سبتمبر من عام 2021 قامت طالبان بالتأكيد على كون الموسيقى محرّمةً في الإسلام وأغلقت مدارس ومعاهد تعليم الموسيقى وقامت بحظر العزف؛ فكانت النتيجة الأوليّة المأساويّة مقتل المغني فؤاد أندرابي في شمال كابول.
جهود المملكة العربيّة السعوديّة في محاربة التطرّف
من أهداف اعتدال الاستراتيجية:
وقد قام مركز اعتدال بنشر مقالاتٍ عديدةٍ تواجه الفكر المتطرّف منها:
1- التطرّف واغتيال الهويّة الثقافيّة.
2- المقاصد الجماليّة في مكافحة التطرّف ومن أبرز ما ذُكر فيه:
"يدأب المتطرّفون على تقديم أنفسهم على أساس أنّهم حماة الفضيلة، وأنَّ قيمة الخير وحدها ما يحوز اهتمامهم، ومن خلال هذا الإيهام يحاولون إقناع الآخر بوجود تعارضٍ بين الخير والجمال، فإذا كان الأوّلُ ضمانًا للحياة الملتزمة بدواعي الأخلاق وواجبات الفضيلة، فإنَّ الجمال في مقابل ذلك -حسب رؤيتهم- نافذة الغواية والفتنة التي يبثُّ منها الشيطان وساوسه وأضاليله.
من هنا، فهم يشنّون حملةً على الفنون الجميلة تحت ذريعة حماية الأخلاق والخير، محاولين صرف الناس عن كلِّ ما من شأنه أن ينمّي ذوقهم الفنيَّ ويطوّر حسَّهم الجمالي، متناسين أنَّ المعتقدات الدينيّة والروحيّة اهتمّت بالأبعاد الجماليّة، فليس هناك من آلية تعبّدٍ في العقائد السماويّة إلا وهي مدعومةٌ بأحد صور الجمال، سواء في بلاغتها التعبيريّة، أو في مظهرها الخارجي أو المكان الذي تتمُّ فيه؛ لذا كانت المعابد ذاتُها عبر تاريخ البشرية المكانَ الذي يسعى فيه الإنسان إلى أن يعبّر عن معتقده من خلال الجمال، ويتفنّن في تجسيده حدَّ الارتياح."
ما أثر محاربة التطرّف على الثقافة والفنون محليًّا؟
شهد العالم نموذجًا رائعًا في محاربة الفكر المتطرّف في المملكة العربيّة السعوديّة ففي عام 2017 أكّد وليُّ العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- أنَّ الأفكار المتطرّفة ستُدمّر وأن لا مجال لتضييع المزيد من السنوات في التعامل مع أيّةِ أفكارٍ متطرّفة. ومن بعد ذلك بُذلت جهودٌ عظيمةٌ في تقدير الثقافات والفنون المحليّة والعالميّة وما زال السعي قائمًا ويتطلّع الجميع في المملكة العربيّة السعوديّة ودول الجوار بل العالم إلى المستقبل المشرق في إحياء الثقافات والفنون في المنطقة وتقديرها وإبرازها. وفي عام 2018 تأسّست وزارة الثقافة في المملكة العربيّة السعوديّة وعُيّنَ لوزارتها الأمير بدر بن فرحان، وممّا جاء في كلمته: "تُعدُّ الثقافة جزءًا أساسيًّا من التحوّل الوطني الطموح الذي تسير عليه بلادنا بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود "حفظهما الله". وتنصُّ رؤية المملكة 2030 على أنَّ الثقافة "من مقوّمات جودة الحياة"، كما تُشدّدُ على أنَّ المملكة بحاجةٍ إلى زيادة نشاطها الثقافي، ومهمّتنا في الوزارة تتمثّل في البناء على هذا العمل والمساهمة في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030".
ومن ضمن إسهامات الوزارة في هذا الباب: إتاحة مسارٍ خاصٍّ للابتعاث بمسمّى الابتعاث الثقافي، وممّا جاء في كلمة الوزير صاحب السمو بدر بن فرحان بهذه المناسبة: "لأنَّ الإنسان جوهر التنمية وعمودها الفقري، ولأنَّ التعليم أساس بناء القدرات البشريّة، وتحقيقاً لرؤية 2030، التي أكّدت على أهميّة الثقافة باعتبارها من مقومات جودة الحياة، رفعت وزارة الثقافةِ رايةَ التعليم أولاً والتعليم أخيراً، حيث يأتي برنامج الابتعاث الثقافي، ضمن ورشة عملٍ وطنيّةٍ كبرى تشهدها المملكة العربيّة السعوديّة على كافّة الأصعدة لتحقيق الركائز الاستراتيجيّة الثلاث لرؤية المملكة 2030، المتمثّلة في بناء مجتمعٍ حيوي، واقتصادٍ مزدهر، ووطنٍ طموح، كما أنّه منبثقٌ من سياق مشروعٍ تعليميٍّ رائدٍ منسجمٍ مع ما تشهده بلادنا من تطويرٍ شاملٍ على كافّة القطاعات، وسيُشجّع البرنامج القطاعات الثقافيّة ويرفدها بالكفاءات والقدرات البشريّة المتسلّحة بالعلم والموهبة والإبداع والطموح، لتساهم في رحلتنا الثقافيّة نحو مستقبلٍ غنيٍّ تزدهر فيه كلُّ أشكال الثقافة والفنون ويفتح للعالم منافذ جديدةً ومختلفةً للإبداع والتعبير الثقافي. وسيتيح برنامج الابتعاثِ الثقافيِّ دراسة علم الآثار، التصميم، المتاحف، الموسيقى، المسرح، صناعة الأفلام، الآداب، الفنون البصريّة، وفنون الطهي وغيرها من صنوف وألوان المعارف الثقافيّة والفنيّة. نكتب اليوم فصلًا جديدًا من فصول ثقافتنا وفنونا وتاريخنا، وسنمضي بعزم قيادتنا الرشيدة وطموح بلادنا إلى تحقيق أهدافنا بسواعدنا".
خاتمة
"قد يكون الفنُّ ترياقًا ناجحًا في مواجهة التطرّف، شريطة أن يخضع هو أيضًا للحماية من موجات الضحالة التي تُفرغه من قيمته الجماليّة، فحينما يتحوّل الفنُّ إلى سلعةٍ رخيصةٍ لا يمكن أن نعوّل عليه في بناء المناعة ضد التطرّف، بل قد يخلق ذلك هشاشةً في ذائقة الأجيال الصاعدة، بحيث يُكسبهم ذلك استعدادًا للتأثّر بالخطابة السوقيّة السمجة للمتطرّفين وهم يستعرضون خطابات الكراهية والحقد في صخبٍ مسرحيٍّ مقيت؛ لذا فالعناية بالثقافة والفنِّ إنما هو اهتمامٌ بما سيظلُّ عالقًا في ذاكرة البشريّة عن حضاراتنا وتقدمنا.".
المراجع: