نمو التطوّع لمجتمعٍ حيويّ

ابتسام حكمي – مسار جازان
تتكامل المجتمعات بتعاونها لحلِّ المشكلات وتجاوز العقبات والسعي لتطويرها بطُرقٍ عديدةٍ منها العمل التطوّعي، وأن يَعي أفرادها حقيقة التطوّع ويُدركون أسمَى معانيه فبهِ يُساهم الفرد بدعم مُجتمعه وتحفيز حسّ المسؤولية لديه

مُساهمة الفَرد في بناء مُجتمعهِ وبَذل العطَاء لمساعدةِ من حوله من أسمَى المعاني وأبلَغ الأفعال، حيث يُحدِث هذا الأمر نقلَةً كبيرةً نحو التقدّم والشُعور بالمسؤوليةِ تِجاه المجتمع والعالم من خلال العديد من المبادرات والمساهمات المجتمعيّة التي تُشجِّع على التعاونِ والتكاتُف لتحقيق النمُوِّ والتطوّر في المجتمعات كما في حديث النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: "مَثَلُ المؤمنينَ في توادّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم كمثلِ الجسدِ الواحد إذا اشتكَى منهُ عُضوٌ تَدَاعى لهُ سائِر الجسَد بالسهرِ والحُمّى."

إنَّ القيَم والمبادئ الاجتماعيّة وتوجيهات الأسرة مُنذ الصِغَر في تربيةِ الأجيال من خلال سَرد سِيرة الأنبياء والصحَابة والقِصص الملهمة والحكايات لها آثارٌ حميدةٌ تُساهم بغرسِ رُوح التَعاون وحُبّ الخير ونشرهِ بين النَاس في المجتمع العربي والإسلامي، وحثّهم على التحلّي بالأخلاق ِالحسنَة والالتزام برُوحِ العمل التطوّعي في سائرِ الأمور امتثالًا لِما جاء في القُرآن الكريم والسُنّة النبويّة.

قد تخطر في أذهانِ بعضنا أسئلةٌ: كيف يُساهم الفرد في بناءِ مُجتمعه؟ ما هو المعنَى الحقيقي للتطوّع والعطاء؟ متَى تكون الأعمَال تطوّعيّة؟ وما هي المعايير التي على الفَرد أن يتحلَّى بها كي يُصبح مُتطوّعًا؟ لِماذا لا يَعرف الكثيرون مفهُوم التطوّع وكيفيّة المبادرة إليه؟ 

للتطوّع مفاهيم متعدّدةٌ وواسعةٌ كلُّها تتفّق على أنّه جُهدٌ يَبذُله الفَرد طَوعًا دُون مُقابلٍ مادي، بحيث يُساهم فيهِ الفَرد لبناء مُجتمعٍ مُتعاونٍ بما يَمتلك من مهاراتٍ وقُدراتٍ وإمكانيّاتٍ كمَن يتطوّع في تسيير وتنظيم مراكز لقاح كورونا بطريقةٍ سَلسةٍ ومَرنةٍ أو يقوم بغرسِ شجرةٍ كي يُساهم في ازدهار الطُرقات وجعلها أكثر حيويّة. التطوّع عطاءٌ بلا مقابل، العطاء يَزدهر ويمتدُّ فيُكمِل النقصَ ويُنمِّي رُوح التعاون. في حين أنَّ الأعمال التي يكون لها مُقابلٌ ماديٌّ لا تُعدُّ تطوّعيّةً وهذا الاختلاف الذي يَجهله بعضُنا قد يُوقعهم في بعضٍ من الأخطاء، فإنّ على المتطوّع أن يكون معطاءً، عطوفًا، ذا رحابة صدرٍ متقبّلًا الاختلافات، مُخلصًا نيّته لوجه الله تعالى، ساعيًا للتطوير والتغيير، شغوفًا بما يُقدّمه، يتّسمُ برُوح التعاون والالتزام وحُبّ العمل الجماعي.

نشأت ثقافة العمل التطوّعي قديمًا فأُمّ المؤمنين زينب بنت جَحشٍ رضي الله عنها التي قال عنها النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: "أسرعكنَّ لحاقًا بي أطولكنَّ يدا"، والمقصود باليد: كثرة مدّها بالعطاء للفُقراء فقد كانت رضي الله عنها تعمل بيدها وتتصدَّق على الفُقراء، وتقول عنها عائشة رضي الله عنها: "ولم أرَ امرأةً قطُّ خيراً في الدين من زينب بنت جَحش، وأتقى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقةً وأشدّ بذلًا لنفسها في العمل الذي تتصدَّق بهِ وتتقرَّب بهِ إلى الله تعالى."

امتدَّت المبادرات المجتمعيّة في المملكة العربيّة السعوديّة من الأفراد إلى فرقٍ متعاونةٍ ومؤسّساتٍ ومُنظّماتٍ تدعم جهود التعاون في بناء ثقافة العمل التطوّعي بين الحكومة والأفراد، بإعداد البرامج والتوعية بصناعة المحتوى ونشره حتى توسّعت كثيرٌ من الأعمال الخيريّة المباركة، كالتطوّع السنويِّ في مواسم الحجِّ والعُمرة، والحرص على تقديم مُخرجاتٍ تُنمّي هذه الثقافة وتُشجّع عليها من خلال جعلها على سبيل المثال نشاطًا معتمدًا في الجهات التعليميّة والتربويّة وإدراجه في خُططها ليكون جُزءًا من التعليم والأنشطة الميدانيّة.

ومع هذه الجُهود إلا أنّه ما زال هناك كثيرون بحاجةٍ للدعم والاهتمام بسبب قلة الفُرص التطوّعيّة وعدم وجود الإعلانات عنها بشكلٍ واضحٍ وقلّة المؤسّسات والمنظّمات المهتمّة بثقافةِ العمل التطوّعي، مما نتج عنه قلّة مُشاركة أفراد المجتمع في العمل التطوّعي، وعُزوف فئاتٍ عن الاهتمام بذلك لكونهم لا يرون فائدةً مرجوّةً من ذلك؛ ويعود السبب لقلّة وعيهم بالتطوّع وعدم اطلاعهم عليه وندرة المصادر التوعويّة والتوجيهيّة، وغياب الإدارة المتخصّصة بشؤون المتطوّعين، بالإضافة لاستغلال التطوّع بطريقةٍ خاطئةٍ من قِبَل مُقدّمي الفُرص التطوّعيّة ممّا أدّى إلى نكوص المتطوّعين وتراجعهم عن انتهازها؛ حيث يتعرّضون لجهدٍ وضغطٍ عالٍ لساعاتٍ طويلةٍ من خلال أعمالٍ مكثّفةٍ من المفترض أن يقوم بها موظّفو الجهة المانحة لهذهِ الفُرصة.

حرصت المملكة العربيّة السعوديّة على البحث والاستقصاء بتعمُّقٍ من أجل فهم هذه المعوّقات وتحديدها كي تُتّخذَ القرارات الصحيحة وتُوضع الحُلول المناسبة ونتمكّن من احتواء هذه المشكلة، ففي أكتوبر 2018 اهتمّت المملكة ممثّلةً بالهيئةِ العامّة للإحصاء بإعداد منهجيّة مسح العمل التطوّعي من أجلِ تحقيق استدامته وتطويره وزيادة الفُرص التطوّعيّة عن طريق مراحل بدءًا بمرحلةِ النّطاق ثُم التصميم ثُم التنظيم فالجمع، التبويب، المعالجة، والنشر وختامها بالتقييم، وتوصّلت إلى جمع الإحصائيّات الواضحة والتي من خلالها اختيرت عيّنة المسح فحُدّدت 19.800 أسرة تُمثِّل عيّنة المسح على مستوى الممـلكة، كما تمّ اختيار العامـلين المرشّـحين كباحثين ميدانيـين يقومون بزيـارةِ الأُسـر لجمع البيانات (مسح العمل التطوّعي)، ثُم تأهليهم وتدريبهم واستكمال باقي مُتطلّبات المسح للحصول على النتائج و تحليلها.

وكانت النتائج خلال الـــــــ12 شهرًا السابقة من فترة المسح: نسبة المتطوّعين 15 سنة فأكثر 14.7% بمُعدل متوسّط ساعات العمل التطوّعي 52.2 ساعة، وخلال الـــــ12 السابقة على فترة المسح: نسبة المتطوّعين 15 سنة فأكثر 16.8% بمُعدل متوسّط ساعات العمل التطوّعي 52.6 ساعة.

ولحرص المملكة على استدامة هذه الثقافة اهتمّت بجعلها محورًا هامًّا في رؤية 2030 بجوانب وأبعاد أساسيّة منها: تعزيز التنمية المجتمعيّة وتنمية القطاع غير الربحي، حيث أنَّ هذا البُعد يُعنى بدعم ثقافة العمل التطوّعي الذي أصبح ركيزةً متينة وضرورةً مُلحّة تسعى إلى التمكين الاجتماعي ورفع كفاءة القطاع غير الربحي ودعمه وتأهيل العاملين فيه وتعزيز قُدراتهم وتشجيع المواطنين على العمل التطوّعي وتعزيز قيام الشركات بمسؤوليتها الاجتماعيّة وتمكين المنظّمات غير الربحيّة من تحقيق أثرٍ عميق.

حيث طُوِّرت استراتيجيةٌ مُحدّدة لتحقيق المستهدفات ومنها: تنويع برامج التمكين للشرائح، تطوير أنظمة تمكين فعّالة مبنيّة على الاحتياج وتشجيع الاعتماد على الذات، تشجيع التبنّي المجتمعي للعمل التطوّعي، تطوير سُبل الوصول للمُحتاجين، تعزيز أهميّة المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات، تطوير الخدمات والحلول غير التقليديّة لزيادة أثر المنظّمات غير الربحيّة، وجميع هذهِ الاستراتيجيّات تهدف إلى حلِّ مشاكل العمل التطوّعي. وتسعى هذه الاستراتيجيات كذلك لحفظ حقوق المتطوّع وإتاحة الفُرص التطوّعيّة وفق ميثاق مُخصّص للعمل التطوّعي من إعداد الموارد البشريّة والتنمية الاجتماعيّة بتصميم المنصّة الوطنيّة للعمل التطوّعي التي تعمل على إتاحة الإمكانيّة للمتطوّعين في اختيار المكان والزمان والمجال الذي يُناسب خبراتهم ومهاراتهم وإتاحة توثيق ساعاتهم وإصدار الشهادات التطوّعيّة، حيث تُعتبر هذه الخطوة مُحفّزًا وداعمًا قويًّا للمتطوّعين خاصةً ولثقافة التطوّع عامةً فتُساهم في رفع كفاءة العمل التطوّعي وانتشاره بصورته الصحيحة والمتوافقة مع الأسس والأنظمة المحددة من قِبَل الدولة رعاها الله.

تتكامل المجتمعات بتعاونها لحلِّ المشكلات وتجاوز العقبات والسعي لتطويرها بطُرقٍ عديدةٍ منها العمل التطوّعي، وأن يَعي أفرادها حقيقة التطوّع ويُدركون أسمَى معانيه فبهِ يُساهم الفرد بدعم مُجتمعه وتحفيز حسّ المسؤولية لديه، ولا نغفَل عن أهميّة التطوّع من الناحية الدينيّة فقد أشار إليهِ الكتاب وأشارت له السنّة ودلّت عليه سيَر الصحابة؛ لذلك حرصت رؤية 2030 على جعلهِ قيمةً أساسيّةً لدى أفراد المجتمع والاهتمام بهِ وإعطائه حقّه على أكملِ وجه فبهِ تنهض الأُمم ويتبدَّد الظلام وينبلج النُور.

وعلى كُلٍ منّا أن يسأل نفسه: ماذا لو قُمنا جميعًا بتحقيق هذهِ الأهداف والغايات قبل حلول 2030؟ كيف ستكون المجتمعات بعد نهضة ثقافة العمل التطوّعي؟ حتى يتسنَّى لنا تخيُّل ذلك واستشعار كُل جُهدٍ مبذول من أجل استدامة رُقي المجتمعات وتطوّرها.

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات