هناك الكثير من الجدليّات التي دارت وتدور حول ماهيّة الثقافة والفن وعلاقتهما، ومن المؤكّد أنّنا قرأنا الكثير من التعريفات والمعاني في الكتب والدراسات التي تحدّثت بإسهاب حول هذا الموضوع، لكن من دون أن تُقدّمَ لنا تعريفًا واضحًا وشاملًا. ولعلّ تعريف العالم الأنثروبولوجي البريطاني إدوارد تايلور الذي طرحه في كتبه ودراساته يُعدُّ من أكثر التعريفات شموليّة، فقد عرّف فيه الثقافة بأنها: "ذلك الكلُّ المركّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنَّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوًا في المجتمع."
فـمنذ آلاف السنين والبشر يعبّرون ويرسمون الحيوانات والرموز والعلامات فوق جدران الكهوف، ويعزفون الألحان، ويرقصون حول النار، ويتحلّون بالزينة والمجوهرات والأصباغ ليعبّروا عن مشاعرهم ويُظهرون انتماءهم لقبيلةٍ أو حضارةٍ معينة.
تغيّرت السُّبل والوسائل، وما زال الإنسان يسعى للتعبير عن ثقافته التي تمثّل هويّته وهويّة المجتمع الذي يعيش فيه. يرى جوليان بيندا أنَّ "المثقفين طبقةٌ صغيرةٌ تتميّز بالموهبة الاستثنائيّة والحسِّ الأخلاقي، وهم من يشكّلون ضمير البشريّة، وهم نادرون نظرًا لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل." ويقول إيفان ثمبسون: "لو تجرّدنا من الثقافة فلن نملك ببساطةٍ القدرات التي تجعل منّا بشراً."
وهذا ما قد يُفسّر الذكاء الاجتماعيَّ الذي يمتلكه بعض القرّاء، فكونهم يعيشون مشاعر جديدةً في كلِّ مرّةٍ ويتذوّقون تجاربَ حياتيّةً تلامس ما يمرّون به في حياتهم ويتعرّفون على ثقافات الشعوب الأخرى وعاداتها وتاريخها من خلال الكتب، ممّا يجعلهم منفتحين لتقبّل الاختلافات، ويجعلهم كذلك ينظرون إلى الأمور بوجهة نظرٍ مختلفة، لأن القارئ يسهل عليه وضع نفسه مكان الآخر، ووضع احتمالاتٍ أخرى قبل الحكم عليه، كل هذا وأكثر يجعله يخرج من عالمه الذاتيِّ الضيّق للعالم الأوسع والأفق الأرحب.
يدرك علماء النّفس التطوّريِّ أنَّ الثقافة تصنع سلوكيّاتٍ مؤثّرةً في التنظيمات التفاعليّة في الدماغ، وهذا لا ينحصر فقط في قراءة الكتب والروايات، بل يشمل كافّة التفاعلات الإدراكيّة والعاطفيّة والحركيّة التي تتطوّر وتفشل اعتمادًا على تداخلات الدماغ المشروطة والمتغيّرة بناءً على بيئة الإنسان بكل ما يحمله المجتمع من ثقافة، وما يتعرف عليه من فنون.
حين استُبعِدَ السُّودُ في أمريكا، وفي ذروةِ معاناتهم واضطهادهم، كانت الموسيقى بمثابة سلاحٍ قويٍّ يمثّل خطابًا اجتماعيًّا، يقوّيهم ويحثّهم على الاستمرار نحو نيل الحرية والكرامة، وفي عام 1863 ميلادي جاء قرار إنهاء العبوديّة والظلم الذي وقع عليهم، فكانت موسيقى الجاز طريقتهم للتعبير عن أنفسهم والتأكيد على هويّتهم وسعيهم المستمر لانتزاع حقوقهم، إلى أنْ صار هناك يومٌ عالميٌّ مخصّصٌ للجاز، والذي لا يمثّل لونًا موسيقيًّا معيّنًا، بل يأتي بأبعد من ذلك، فهو يمثّل شكلًا هامًّا من الأشكال الفنيّة الدوليّة من أجل تعزيز السلام والحوار واحترام حقوق الإنسان من أجل القضاء على التمييز وتعزيز حرية التعبير.
هناك من يعوِّل على الثقافة والفنِّ في التأثير على الإنسان وسلوكه، وهناك آخرون ينظرون إلى أنَّ هناك سماتٍ شخصيّةً لا نستطيع أن نتجاوزها، فينظرون إلى الثقافة والفنون على أنّها مجرّد أدوات والإنسان وحده من يقرّر تأثيرها عليه من عدمه، فترسّبات الطفولة والمراهقة والتي قد يتزامن معها غياب الهدف والرسالة الواضحة، والانغماس بالمتع اللحظيّة والاستهلاكيّة قد تغيّب الجانب الإنساني فينا، وتجعلنا نتعامل مع الآخرين تعاملًا أساسه المنفعة الشخصيّة، من دون أيِّ اعتبارٍ لهموم الآخر وتحدّياته.
في السنوات الأخيرة الماضية، عملت لفترةٍ قصيرةٍ من حياتي كأمينة مكتبة، حاورت الكتّاب والفنّانين، والتقيت الكثير من القرّاء والمثقّفين، والمهتمين بالفنون بأنواعها، وكانت الفنون والكتب تُحيط بي من كلِّ اتجاه، كان شعوري بالزهو يكبر ويكبر، وكان الامتنان على كم التغذية البصرية والسمعية التي تعرّضت لها يغمرني كل يوم، فالكتب بكافّة مجالاتها، واللوحات بمختلف ألوانها وأحجامها كلها كانت حاضرة، والموسيقى بنوتاتها الشرقيّة والغربيّة كذلك.
شعرت حينها بأنَّ حواسّي بدأت تسبح في عالمٍ حقيقيٍّ وجميل، بعد أن كانت تغوص وترتحل في عوالم الكتب الموازية وتختار في خيالها ما تشتهي من أماكن وشخصيّاتٍ ترافقها وتعيش معها، وكنت أحبُّ مشاهدة ردود أفعال الزوّار في كل جلسة قراءةٍ وفي كلِّ معرضٍ فنيٍّ وفي كلِّ ليلة عزف. شاهدت بعيني تباين النّاس في تلقّي الثقافة والفنّ، فبعضهم يندمج معها، والآخر ينظر لها نظرةً خاطفةً إلى غير ذلك.
تساءلتُ كثيرًا عن تأثير الثقافة والفنِّ على الإنسان، وإن كان الاهتمام الحقيقيُّ بها يجعله متعاطفًا أكثر مع قضايا أخيه الإنسان، وتجعله يقف باهتمامٍ وتأمّلٍ وإنصات.
هل تخلق الثقافة منّا شخصًا آخر؟
ما جعلني أفكر بهذه الأسئلة غير عملي، هو تعرّفي على فنّانةٍ تشكيليّة، تمارس الفنون وترسم لأكثر من 34 سنة، ولطالما تأمّلتها وهي تصلح كلَّ شيءٍ مكسور، وتحتفي بالقصاصات والأكواب الورقيّة وتدوّن عليها اليوم والتاريخ مهما كان حجمها، وتحتفظ بكلِّ حجرٍ تعثّرت به، فاحصةً كلَّ ما يمشي على الأرض، تضع فتات الخبز لطابور النمل وهو يسير على الجدران، تعتني بالحيوانات في بيتها والكثير من النباتات الخضراء، وتتعامل مع ما حولها على أنّهم لوحاتٌ فنّيّةٌ غير مكتملة، فتارةً تمنحنا بريشتها الألوان، وتارةً تمنحنا الحبّ؛ فنكتمل.
لا أعلم إن كان من الصواب أن نحمّلَ الثقافةَ والفنَّ كلفة التأثير علينا وإصلاحنا، ولكنّي أعتقد أنَّ من تمرُّ الكلمات على روحه، قبل أن تراها عيناه، ومن يترك فرصة للوحة الفنيّة أن تنقله لبعدٍ آخر، وينصت للموسيقى بكافّة حواسه، فيستمع لخطابها الاجتماعيِّ الذي تودُّ إيصاله قبل ألحانها، لابدَّ وأن يتأثّرَ إيجابًا وأنْ يتغيّر للأجمل.
المراجع: