قال تعالى (يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلناكُم شُعوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ).
إنَّ ما يميّز الشعوب عن بعضها البعض تاريخيًّا الثقافة –بجانب الدين والعادات والتقاليد والموقع الجغرافي- لذا كان الإنسان بشكل واعٍ أو دون وعيٍ يكوّن لنفسه ولمن معه ثقافةً عاّمة، تتناقلها الأجيال من بعدهم ويضيفون عليها. علاقة الإنسان بالثقافة كانت وما زالت قائمةً دومًا، فارتباط الثقافة بالإنسان يحدّد وجهًا من أوجه وجوده على الأرض.
يظنُّ البعض للوهلة الأولى عندما يسمع كلمة ثقافة أنّها مجموعة من المعلومات التي تُردّد دون جدوى، والحق أنَّ الثقافة مفهوم معقّد ومركّب للغاية، فهي: المعلومات والمعارف المنتجة للسلوك الإنساني في الحياة المباشرة، تُترجِمُ الثقافة أساليبَ وطرائق عيشِ المجتمعات، وتُبرز الثقافة صورةً هامّةً لحياة الشعوب السابقة.
معنى الثقافة: "كلُّ ما يضيء العقل، ويهذّب الذوق، وينمّي موهبة النقد، وباشتقاق كلمة ثقافة من الثِّقاف يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة، والشخص ذو الاطلاع الواسع يُعرَّف على أنّه شخصٌ مثقّف، وتُعرّف الثقافة أيضًا -اصطلاحاً- على أنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكيّات التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن فئةٍ معيّنة، والثقافة التي يكوّنها أي شخص يكون لها تأثير قويّ على سلوكه".
وكان للعلماء والمفكرين نصيبٌ من تعريف الثقافة، ومن هذه التعريفات ما قاله العالم الاجتماعيُّ مالينوفسكي عن الثقافة "أنها الأفكار الإنسانيّة والعادات والتقاليد والنُّظم والقيم الاجتماعيّة لتحقيق الحاجات الأساسيّة، والضروريّة داخل المجتمع ويفرض عليه نظام معين".
قال الأنثروبولوجي تايلور إنَّ الثقافة "تعبير عن شموليّة الحياة الاجتماعيّة، وتتميّز ببُعدها الجماعي، والثقافة في نهاية الأمر مكتسبة، وبالتالي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية، ومع أنها مكتسبةٌ فإنَّ أصلها وطابعها غير واعٍ إلى حد كبير".
حاول سايبر وضع مفهومٍ شاملٍ للثقافة، فقام بوضع ثلاثة تعريفاتٍ تُكمّل بعضها، وهي:
" أيّ صفةٍ يتّصف بها الإنسان يكون مصدرها الإرث الاجتماعي".
"مجموعة من الأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر في مجتمع ما بسبب التأييد الاجتماعي لها، ويكون أساسها التراث".
"مجموعة من الأفكار التي تدور حول الحياة والاتجاهات العامة ومظاهر الحضارة التي يتميّز بها شعبٌ ما، وتُكسِبُهُ مكانةً خاصةً في العالم".
ونلاحظ أنَّ العلماء الثلاثة اتفقوا أنَّ الثقافة تتمحور حول الإنسان والمجتمع، فهي تصوّر خارطة ثقافيّة للمجتمع لفهم الماضي وعيش الحاضر وتصور المستقبل، ثم إنها تُعطي سببًا للأفعّال التي يقوم بها الأفراد، وبدون ثقافة يصبح المجتمع بلا هويّة تائهًا في حاضر الحياة لا يستطيع إعادة إحياء ماضيه أو صنع مستقبله.
إنَّ تجديد الثقافة ومنحها لباسًا يناسب الزمان والمكان هو الحل لمواجهة العولمة واستلاب الهويّات، بالاستفادة من الماضي والاستنارة به للاستعداد للمستقبل، فنستطيع أن نستفيد من طاقاتنا وقدراتنا لنصدّر ثقافتنا للعالم، وهذا لا يحدث إلا بالاعتزاز بالهويّة والثقافة العربيّة السعوديّة، ليصبح لدينا ولدى العالم تعددية ثقافيّة، نستطيع من خلالها التعايش بسلام، ونبتعد عن التقوقع الثقافي.
والتقوقع الثقافيُّ معناه أنَّ كلَّ بيئة ثقافيّة تُكسِبُ الفرد شخصيّة وسلوكًا وأفكارًا وعقليّةً متميّزة، ولكنَّ هذا الفرد يعتبر أنَّ أيَّ تفاعل أو تداخل مع ثقافاتٍ أخرى لا بدَّ أنْ يؤدّي إلى فقدان الأصالة وذوبان الهويّة والذات، وتلك خطيئةٌ كبرى. فمن الضروريِّ اكتشاف الثقافات الأخرى والتعرّف عليها والاستفادة منها.
للتعددية الثقافيّة دورٌ هامٌّ في فهم الشعوب، وقد قال لويس رودريغس: "ظلّت المجتمعات متنوّعة ثقافيًّا في القرن الواحد والعشرين، حيث يوجد في معظم البلدان خليطٌ بشريّ من أعراق وخلفياّت لغويّة وانتماءات دينيّة مختلفة، ووصف المنظّرون السياسيّون المعاصرون هذه الظاهرة المتمثّلة في التعايش بين الثقافات المتنوّعة في البقعة الجغرافية نفسها بفضاء التعددية الثقافيّة.
إن عمليّة العولمة التي انطلقت نهايات القرن الماضي أصبحت الآن سبيلًا للوصول للتعددية الثقافيّة، إذ علينا وعلى الإعلام تعميم التعددية الثقافيّة. وعند الوصول للتعددية الثقافيّة تتسهّل عملية التفاهم.
إنَّ أمام العالم والمجتمعات شوطًا طويلًا لتطبيق وفهم التعددية الثقافيّة، إذ أصبحت التعددية الثقافيّة صناعة، وقد نسمع كثيرًا بالتفاوض في المصالح سواءً بين الدول أو الشركات أو على مستوى الأفراد، لكن لا نسمع بالتفاوضية الثقافيّة، لماذا؟ وما هي التفاوضية الثقافيّة؟
قد لا يكون معنى التفاوضية الثقافيّة بمثل معنى التفاوض في المصالح، لكنه يتضمن عدة عوامل أحدها وأهمها الحوار، الحوار مع الغير وطرح الثقافات لتتبلور لدينا ثقافاتٌ عدّة قد نستطيع من خلالها الخروج بثقافة عالمية.
يقول الدكتور عبد الله الغذّامي عن التفاوضية الثقافيّة: "التفاوضيّة الثقافيّة تقوم على أربعة أركان: الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة والتعدديّة."
ومن المعلوم أنّ الكساد الكبير الذي ضرب العالم في ثلاثينيّات القرن الماضي كان مرتبطًا بالثقافة ماليّة، حيث كان المواطن الأمريكي يفتقد هذه الثقافة، بالإضافة لضعف النظر لدى المؤسسات الحكومية ممّا أنتج في نهاية الأمر حالةً أدّت إلى تراكمٍ كبيرٍ تفجّر من خلاله الكساد العظيم.
حدثت في ذلك الوقت تغيّرات كثيرة منها، توجّه المواطنين إلى السوق الماليّة -وول ستريت-، فكانوا يقترضون لأجل المضاربة أو الاستثمار، دون الأخذ بالثقافة الماليّة والاحتياطات الاستثمارية؛ ووقتها تنبّهَ الاحتياطي الفيدرالي أنَّ حجم التعامل في الأسواق الماليّة في ازدياد، وأن الاقتراض ارتفع بشكل سريع.
وحينها خرجت نشرة الاحتياطي الفيدرالي تقول: "حجمٌ غير مسبوقٍ من المعاملات في سوق المال، وارتفاعٌ متواصلٌ في أسعار الأوراق الماليّة." وبعد ذلك بدأ الاحتياطي الفدرالي بسحب الأموال من السوق. ماذا لو كانت هناك ثقافةٌ ماليّة؟ أو ثقافةٌ استثماريّة؟ لم يكن ليحدث ذلك، والمعروف أن زيادة الأموال في أيّ سوقٍ ينتج عنها تضخّم.