ذاكرة الشعوب

ضيّ السليم – مسار الأحساء
هذا المقال كتب بقلم أحد المتميزين الفائزين في برنامج صوت الشباب. صوت الشباب برنامج إثرائي يهدف لإشراك الشباب من مختلف أنحاء المملكة في عدد من الندوات واللقاءات التدريبية والحوارية التي تركز بشكل رئيسي على مهارات التواصل والإقناع والتفكير النقدي.

 

يعتبر الإرث الثقافي ذاكرة الشعوب وهويتها، تاريخها وأصالتها. وتأتي أهمية حماية الإرث الثقافي لأنّها حمايةٌ لإنتاجنا وإبداعنا الإنسانيِّ في الثقافة والفنون، وهذه لغة العالم المشتركة التي تحقق التقارب والتعايش وتساهم في السلام العالمي؛ إذ يتصل العالم ببعضه البعض للتعرف على جذور تاريخه البشري من خلال إسهامات من سبقوه على مر العصور والأزمنة؛ لذلك يُعد إرثًا إنسانيًّا مشتركًا تجب حمايته. 

وباختلاف أنواع الإرث الثقافي كالإرث المادي: ونعني به الآثار والمباني والأماكن الدينية والتاريخية، والإرث غير المادي: كالتقاليد الشفهية وفنون الأداء والممارسات الاجتماعية والطقوس، والإرث الوطني الوثائقي: وهو ما يُعرف بتاريخ الشعوب كالمخطوطات والمتاحف والأعمال الفنية بمختلف أنواعها. وإنّ لجميع هذه الأنواع أهميّةً عاليةً وقيمةً كبيرةً؛ فهي تُشكّل مصدرًا أساسيًّا في تكوين الهوية التي تُعرف الشعوب من خلالها؛ إذ أن الشعوب تختلف باختلاف ثقافتها وتنوّع أفكارها، وهذا الاختلاف يجعل كلاً منها حريصًا على المحافظة على إرثه وتراثه باعتبارها نافذة للتواصل العالمي للاطلاع واستكشاف آثار الحقب الزمنية المختلفة. فتكريس الحكومات جهودها للمحافظة على التراث الإنساني هو في حقيقته محافظةٌ على قيم الشعوب وإنسانيتها، تاريخها وحضارتها، وبالتالي فإنّ محاولة الاعتداء على الموروث الثقافي جريمةٌ في حق الإنسانية لكونها تطمس تاريخ الهوية الثقافية العالميّة. 

ولِمَا تشكّل الممتلكات الثقافية من أهمية عظمى لكافّة الشعوب كان لزامًا أن تتكفّل بحماية هذا الإرث جهات دولية؛ للحدِّ من التعديات عليه. لذا؛ فقد تظافرت جهود المجتمع الدولي لاتخاذ كافة التدابير الممكنة لحماية الموروث الثقافي في السلم والحرب، وتمثّلت المبادئ الأولى لحماية الثروات الثقافية في اتفاقية باريس عام (1815م) والتي احتوت على مواد نصت على: "ضرورة حماية المتاحف والمكتبات، وبعد ذلك ظهر قانون ليبر، وهو قانون عُرْفي عام (1863م) في الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية متضمِّنًا مبادئ وقواعد تمنع الجيش من الاستيلاء على أيِّ أهداف تقع ضمن المدارس والجامعات والأكاديميات والمتاحف، وأكّدت تلك المواد على إلزامية حماية هذه الأماكن".

 

أما الإسلام فقد جاء بالكثير من المبادئ الحاثّة على حماية أماكن العبادة كما ورد في القرآن الكريم: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم).

وامتدادا لهذه الجهود والمبادئ فقد نظّم المجتمع الدولي اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح (14 أيار/ مايو 1954م) اعترافا منه بخطورة الأضرار الجسيمة التي تتعرض لها الممتلكات نتيجة تقدم تقنية الحرب.

وقد عرّفت الاتفاقية الممتلكات الثقافية بأنها:

 أ- الممتلكات المنقولة أو الثابتة العائدة لتراث الشعوب الثقافي، كالمباني المعمارية أو التاريخية، الديني منها أو الدنيوي، والأماكن الأثرية، ومجموعات المباني التي تكتسب قيمة تاريخية أو فنية، والتحف الفنية والمخطوطات والكتب والأشياء الأخرى ذات القيمة الفنية التاريخية والأثرية، وكذلك المجموعات العلمية ومجموعات الكتب الهامة والمحفوظات ومنسوخات الممتلكات السابق ذكرها.

 ب- المباني المخصصة بصفة رئيسة وفعلية لحماية وعرض الممتلكات الثقافية المنقولة المبينة في الفقرة "أ"، كالمتاحف ودور الكتب الكبرى ومخازن المحفوظات وكذلك المخابئ المعدَّة لوقاية الممتلكات الثقافية المنقولة المبينة في الفقرة (أ) في حالة نزاع مسلح.

 ج- المراكز التي تحتوي على مجموعة كبيرة من الممتلكات الثقافية المبينة في الفقرتين (أ) و (ب) والتي يُطلق عليها اسم "مراكز الأبنية التذكارية".

كما ظهرت الحاجة إلى تنظيم المسائل المتعلقة بإعادة الممتلكات الثقافية المنهوبة، ورأت الدول أنه من الضروري اعتماد اتفاقية خاصة لحماية الممتلكات الثقافية فجاءت نشأة اتفاقية التعاون العالمي للحفاظ على الحضارة العالمية والتراث الطبيعي وحماية حقوق الإنسان بمبادرة من الهيئة العالمية للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التي تتبعها 193 دولة من بينها (المملكة العربية السعودية) وإحدى عشر عضوًا منتسبًا ويقع مقرها الرئيسي في باريس. ومن أهمِّ وظائف اليونسكو إعلان قائمة مواقع التراث العالمي؛ وهي مواقع تاريخية أو طبيعية تجب حمايتها والمحافظة على سلامتها من قبل أعضاء المجتمع الدولي. وقرّرت منظّمة اليونسكو أنَّ "من يقوم بسرقة عمل فني، أو بيع عمل فني منهوب أو شرائه؛ يُعدُّ ضالعًا في نهب الشعوب والذاكرة".

 

ولقد ساهمت المملكة في حماية ممتلكاتها الثقافية من خلال (نظام الآثار في المملكة العربية السعودية الصادر عام 1392ه) ونظام (حماية التراث المخطوط في المملكة العربية السعودية الصادر عام 1422ه) ونظام (الآثار والمتاحف والتراث العمراني الصادر عام 1436هـ). 

ولعقود طويلة كان الإرث الثقافي للمملكة العربية السعودية غائبًا عن العالم، بالرغم من كونها منطقة جغرافية غنية بالتراث والتاريخ الإنساني، ويكفي أنها مهبط الوحي وأرض الحرمين الشريفين وقلب العالم الإسلامي. ولكنه لم تكن هناك ممارسات للغة العالم المشتركة من الثقافة والفنون والتراث إلا بالحد الأدنى ولذلك لم يكن يُعرف عنها. وترتّب على ذلك أن أي حملات تشويه عدائية كانت تلاقي قبولاً وتصديقًا دوليًا إذ لم يكن هناك ما يؤكّد نقيضها من الممارسات الثقافية الوطنية الجادّة، أو استثمار القوة التي نملكها للتّصدّي لهذه الشائعات. "كان الإرث الثقافي للمملكة العربية السعودية غائبًا عن العالم لفترة طويلة. لذلك تهدف رؤية السعودية 2030 لانفتاح المملكة على العالم وإتاحة الفرصة أمام الجميع لمشاهدة تراثنا الغني، مما يخلق العديد من الفرص الثقافية والإبداعية الجديدة التي تحفّز الرغبة على التعاون والاستثمار في المملكة" العبارة أعلاه نُشرت على الموقع الرسمي لرؤية المملكة 2030. 

وبإعلان رؤية سمو ولي العهد لمستقبل المملكة العربية السعودية 2030 بدعم ورعاية خادم الحرمين الشريفين، تنطلق بذلك المملكة لتصافح العالم وتتصل به عبر الثقافة والفن والتراث حيث تسعى المملكة لاستثمار قوّتها التي حبانا الله بها من مواقع استراتيجية متميزة وقوة استثمارية رائدة وعمق عربي وإسلامي وثروة تاريخية وثقافية. وهذا ما يؤكّده حوار سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مجلة ذا أتلانتيك الأمريكية حين قال:" نريد أن نكون جزءًا من الثقافة العالمية، من خلال دمج ثقافتنا بالهويّة العالمية". وهذه هي الأصالة، بل كل الأصالة أن نعتز ونفتخر بهويتنا ونصافح العالم من خلالها. 

ومما يؤكد تكثيف الجهود وتكاتفها لتحقيق رؤية 2030، فقد أعلنت هيئة التراث السعودية عن نجاح المملكة في تسجيل سادس موقع سعودي ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي وهو "الفن الصخري الثقافي في منطقة حمى الثقافية بنجران" وقد سبق لها أن نجحت في تسجيل:

١- الحجر (المدينة المنورة) عام 2008.

٢- حي الطريف في الدرعية (الرياض) 2010.

٣- جدة التاريخية (البوابة لمكة المكرمة) 2014.

٤- الفن الصخري (حائل) 2015.

٥- واحة الأحساء 2018.

٦- منطقة حمى الثقافية (نجران) 2020.

وبذلك تقطع المملكة أشواطًا تاريخيةً بإطلاقها عددًا من المشاريع السبّاقة والتنافسيّة التي تُثبت فرادة الموروث الثقافي ودوره في بناء المستقبل. لذلك كان لزامًا على كل جيل أن يبذل ما في وسعه للحفاظ على تراث من سبقه، واسثماره وتنميته.

 

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات