كيف غيرت رؤية المملكة 2030 الأرضَ الفنية والثقافية في المملكة؟

آمنة حربوش – مسار جازان
هذا المقال بقلم أحد المتميزين الفائزين في برنامج صوت الشباب. صوت الشباب برنامج إثرائي يهدف لإشراك الشباب من مختلف أنحاء المملكة في عدد من الندوات واللقاءات التدريبية والحوارية التي تركز بشكل رئيس على مهارات التواصل والإقناع والتفكير النقدي.

 

"ليت العيون اللي تَحرّق هدبها..بالدمع، واشقتني عتاب ومشاريهْ

اللي تقول الناس تعلى رتبها..وأنت بمكانك تطرد الغيّ والتيهْ

ويا بدر ما تسوى القصايد تعبها..ولا لك بها عِزٍ ولا خير ترجيهْ"

الأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود، ١٤٤١ هـ.

 

إن كان هذا ما قد قيل لمهندسِ الكلمة، وبدرِ الأرضِ الخضراء، الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن، وهو الذي أسكن البلاد (سواد عيوننا) بحرفه، وخَلَقَ صورةً سماويةً لأرضنا بفنه؛ فكيف بمن هو دونه؟!

بعيدًا عن الوجهِ الباسم للقولِ الذي ألهم البدر كتابة قصيدة الوِشاح، وقريبًا من الوجه الآخر لهذا البيت، يَظَهرُ جزءٌ واسعٌ من حقيقةِ نظرةِ المجتمعِ السابقةِ للفنِ ّكمؤثّرٍ وأداةٍ ذات فَرقٍ، ودورٍ في تشكيل الإنسان وبالتالي المجتمعات ونهضتها.

 "نظرةٌ سابقة"؛ لأن ذات العيونِ العاتبة، قاصرةُ النظر عن دورِ الفنِّ والثقافة، تشهدُ تكريم الشاعر بدر بن عبد المحسن بوشاحِ الملك عبد العزيز؛ نظير ما قدمهُ من أعمالٍ، وكلماتٍ، ونصوصٍ أدبية.

فــــــــ(يكفي العيون المسرفة في عتبها..يا تعتذر للبدر وإلا تهنّيه)! (البدر، ١٤٤١)

والتهاني لكلِ مُوهبةٍ فريدة، لكلِ يدٍ تُراقصُ مشق الخيزرانِ أو دلال الريشِ على وقعِ الحبر وحيدةً منزوية، لكلِ عينٍ ترى ما تسمع كـ(سيناريو) وتنظرُ لِما تنظرُ كمشاهدٍ فتبتكرُ للموقعِ قصةً تحكيه وشخوصًا بأدوارٍ وجُمل، غير أنَّ كل ما تصنعهُ لا يتجاوزُ المخيّلة، لكلِ من يرى أبعد وأعمق، للذي يعي خشخشةَ الأقمشة، ويتوقُ لصناعةِ ما يلفتُ نظره، للذي يُبصر في كلُ شبرٍ من هذه الأرض إلهامًا لكنّه لا يعرف أين يمكن أن يُذيب صلابة المصمكِ في قطعةِ قماشٍ ليصنع الرقّة المهيبة التي تهمسُ بها الأقمشة في أُذنيه، ولكل متحدثٍ بالموسيقى، لكل طاهٍ تتجاوزُ لذةُ ما يُعدُّهُ المكانَ وتبقى حائرةً تدور، لكل من يحبُّ أن يشاركنا الجمال الذي يراه بمختلف اللغات مُكسيًا إياه جمالًا بهيًّا عربيّا، لكل صاحبِ فكرٍ وفنٍّ؛ لقد جاء اهتمام الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، صادقًا بكل ما يخص الفن والثقافة، إيمانًا بأهميةِ وجِدية الدور الذي تلعبونه في تقدمِ ورُقي المجتمعات. 

ابتداءً من بناءِ رؤيٍة تتمحور حول خليفةِ اللهِ في أرضه، مُوليةً رسالةَ الله بإعمار الأرض المكانة العُظمى، مستثمرةً في (الإنسان) الذي يُشكّل نقطة الانطلاقة، بجعلِ بنائه ورفاهيته أهدافًا لها، في سلسلة رعايةٍ ذات بداية أصيلة، جاعلة حيوية المجتمع ركيزةً استراتيجية

ولمّا كان الفنُّ جزءًا من الإنسان وأحد أساليبِ التربية وتشكيل الأمم، بشرحهِ حيواتنا المتقلبة، وقدرته على وصفِ حقيقةِ الإنسان، الساخطة الثائرة كانت، أو المحبِّة الراضية، العَجِلة كانت أو الهادئة المستكنّة، مُبسطًا بتعقيدهِ أفكارنا، وحالًّا عُقدنا ببساطته، معرفًا بنا، مُشكّلًا وجه الشعوب -لاعبي دور الفن- التي تُشكّلُ الأُمم.

يعود (فريدريك نيتشه) في مولد (التراجيديا) إلى عمق التراث الأثيني والميثولوجيا اليونانية؛ ليستحضر منها فكرةَ ولادةِ الفن من رحم الإنسانية -المأساة الإنسانية على وجه التحديد- وسواءً اتفقنا مع نيتشه كليًا أم لم نتفق، لا يمكن أن ننكر أن الفنَّ جزءٌ من الإنسان، ما أن يجهلهُ حتى يَفقِد تعريفه الكامل لنفسه.

فالفنُ منذ الأزلِ لم يعكس وجه الشعوبِ وحسب، بل وكان أحد العمليات التي غيّرت ملامحه! 

بالفن طعنت أمريكا الحركةَ النازية، عبر فيلم الكرتون القصير، الحاصل على الأوسكار لعام ١٩٤٢ (وجه دير فوهرر Der Fuehrer's Face)، بذاتِ الفنِ روّجت كندا لسنداتِ الحرب، وبالفنِ أَبصرتْ (هيلين كلير) ورأت وتحدثت، وبالفن نجا مالم نعرف، فالفنُ تجسيدُ الهُوية، في تضاريس أوطاننا، في أنفسنا، ومجتمعاتنا،

الفنُ صوتُ الفِكر، صوت العاشقين، أغانيهم، أفكارهم، الفكرةُ المجهولة، المجنونة، المسجونة، الفُضلى. ومن هنا جاءت رؤية المملكة 2030، معترفةً بهذا الدور، مُعيدةً ترتيب الأولويات، مصححةً المفاهيم حول ترف الفنِ وضروريته، مُوسعةً للمملكة العربية السعودية مساحةً تستحقها في أرضِ الفنون العالمية، مهيئةً لكل فرد طريق رحلته، لاستكشافِ نفسه.

 

تُدرك أبعاد النقلة النوعية التي تحققها الرؤية المُلهمة 2030 باعتبار الفنِّ السعودي، فتيًّا غضًّا -بالرغمِ من صولاته وجولاته التي تُلبسهُ عُمرًا أكبر- حيثُ احتاج المسرح السعودي لأكثر من مائةِ عامٍ لينمو ببطءٍ في المملكة، بعد ولادة المسرح العربي، وكذا فنُ التشكيلِ، الذي كان دخول التربية الفنية للمدارسِ، جواز دخولهِ للمملكة، هذا التأخّر لا يعني جدب الأرضِ من الفنِ أو قفر الثقافة، بل وبالرغمِ من نخبويةِ الفنِ قديمًا إلا أن للتاريخِ ذاكرةً مليئةً بأرواحٍ خضراء وُلدت للفنِ وعاشت بالفنِ وماتت فيه، غير أن المعرفةَ بأهمية الفنِ والثقافةِ والاعتراف بهما، كانت كالجناحِ والجسد، يقول هشام بنجابي الفنان التشكيلي وأحد رواد الحركة التشكيلية السعودية والعربية -بحسب ما أورده معهد مسك للفنون بالمملكة- “إنَّ رؤية 2030 جاءت لتروي عطش أصحاب الفكر والثقافة والفن" وبلا شك. 

لقد غيّرت الرؤية أرضَ المملكة الثقافية والفنية وكانت كالدَيم لأصحابها، فأُسِّسَت وزارةُ الثقافة عام 2018؛ لتُسهم في تحقيق برنامج التحول الطموح الذي تعيشه المملكة ضمن رؤية 2030، تأكيدًا على أن الرؤية لا يمكن أن تتحقق بمنأى عن الفنِ والثقافة، وأن للأخيرةِ دورها المهم والمباشر في تحقيق ركائز رؤية المملكة في بناء مجتمعٍ حيوي، ووطنٍ طموح واقتصادٍ مزدهر، وأن الثقافة كما تنص تُعدُّ مُقومًا من مقوماتِ جودةِ الحياة.

فعندما أصبح للفنِ والثقافة حاضنة ومرجعيّة، أصبحت أرض بلادنا أكثر صلابة، وأصواتُ المبدعين أعلى ثقةٍ، وأرواحهم أكبر إقدامًا، ثقةٌ تحوّل مواهب الإنسان لعملٍ يمكن أن يخلق مردودًا من ورائه، بعد أن عززت الرؤية أهمية الفن والثقافة، بالاعترافِ بها كأحدِ أساليب التنمية الفردية، وكداعمٍ للاقتصادِ، بتوفير فرص العمل، وجذب السياح، واستقطاب الاستثماراتِ وتحقيق التنميةِ الاقتصادية، ثقةٌ تجعل الانسان يتفانى في بناءِ الأرضِ التي تُقدّر كل ما يُجيد.

أعادت الرؤية حياة التراث والموروث، لتجعلنا نلمسُ مالا يُمسّ، نلمسُ أهمية ودفء الاحتفاءِ بلونِ الخزامى، نلمسُ تنوع التضاريس في ألوانِ القطّ العسيري، ونلمسُ التاريخ ونرى تجسد الحضارة في العُلا، ليتفجّر الفنُ في ظل الرؤية من كل جانب، وتفيضَ الثقافة مُفصحةً عن أقطار المملكة المترامية بكنوزها المتنوعة وألوانها المختلفة، حتى أدركتها كل البيوتِ، متجاوزةً الشعب المحظوظ المحب، إلى العالم، بالمواسمِ المقامة والمبادرات المجتمعية، والمسابقات، وتقدير الفن وأصحابه، مهيئةً لأصحاب الفكرِ والفن طريق الانطلاقة لنرى من المشاريع ما تتخذُ من الثقافةِ منطلقًا لها محوّلةً ملامح التراث والإرث ومعالمه إلى منتَجٍ يلامسُ الهوية ويعبر عنّا، بعد أن هيئت لمثل هذه المشاريع الأرض، برفع ذائقة المتلقين وإثرائهم، فها هي (قرمز) العلامة التجارية السعودية تنطلقُ بإيمانٍ من وزارة الثقافة حتى صارت أحد عملائها، وولادة أول جمعيّة أهلية للسينما، ونخلٌ ذهبي وشاشاتٌ تعرض ونصوصٌ تفوز. 

وها هو الفن في صوت (محمد عبده)، وريشة (الفيصل)، و(اسمعي صوتي وردي) يُبعثُ مُحرِرًا الفنانَ بداخلِ كلِ أحدٍ منّا، مُثبِتًا أصل هويتنا، مؤكدًا أننا أهلُ الثقافةِ والفن وأن الفن جزءٌ من إنسانيتنا، وأن إدراكُ هذا والعمل بمقتضاه يمكن أن يحوّل وجه الأرض، حيث يُوجز الفنان التشكيلي هشام بنجابي مضمون المقالة بقوله "إنّ "بلادنا تعيش حالة من الحراك الفني والثقافي غير المسبوق وذلك بفضل رؤية 2030 الهادفة لتطوير المملكة وما تضمّنته من محاور تناولت شتى مناحي الحياة ومختلف القطاعات وفي مقدمتها قطاعات الثقافة والفنون."



 

إضاءات ذات صلة

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات