مفهوم الثقافة

سلمان العويضة – مسار الجوف
هذا المقال بقلم أحد المشاركين المتميزين في برنامج صوت الشباب. صوت الشباب برنامج إثرائي يهدف لإشراك الشباب من مختلف أنحاء المملكة في عدد من الندوات واللقاءات التدريبية والحوارية التي تركز بشكل رئيس على مهارات التواصل والإقناع والتفكير النقدي

الحق والخير والجمال هي غاية العقول البشرية ومنتهاها، ومقاصد العلوم ومبتغاها، وقيم الناس وقبلتها، فما يوصِل إلى الحق من علوم الناس فهو (العلم)، وما يمثل الجمال عندهم هو (الفن والأدب) وما يوصلهم إلى الخير هو (الأخلاق).

فأين الثقافة من هذه الثلاث؟

إن المتأمل لواقع الناس اليوم وولعهم بامتلاك المعلومة حتى أصبح امتلاك المعلومة من أقوى الأسلحة للأفراد والمجتمعات، ومن أبرز مقوماتها ونجاحاتها، وما حصل في جائحة كورونا والتسابق بين الحكومات لفك شفرة ذلك الفايروس بامتلاك العقار الناجع ليس إلا مثالًا حيًّا وواقعيًّا.

وعلى هذا، هل امتلاك المعلومة هو قوام وصلب وحقيقة الثقافة؟

نسمع دائمًا بين أواسط الناس والشباب عند ثنائهم على بعض الشخصيات المتزنة "الواعية" قولهم: (فلان مثقف) أو (فلان لديه ثقافة واسعة) وفي أوقاتٍ أخرى يعبرون عن الثقافة بسعة الاطلاع فيقولون (فلان مطلع)، و"في ثلاثينيات هذا القرن وما بعدها استُعمِلَ لفظ (ثقافة) بالمعنى الذي كان القدماء يستعملون فيه لفظ الأدب، الذي يعني الأخذ من كل شيء بطرف كما يقول الجاحظ، أي توسيع الإنسان لمعارفه، وفي العصر نفسه كانوا في أوروبا يقولون لا يتم علم المرء إلا إذا عرف شيئًا من كل شيء، وكل شيء من شيء.

فما هي حقيقة ومفهوم الثقافة، وأين الثقافة من العلم وامتلاك المعلومة؟

وحتى نستثير العقول أكثر لإدراك هذه المشكلة المتعلقة بالمفاهيم المجتمعية اليوم، نقول: إن العلم والفن جزءان لا ينفصلان من الثقافة بمفهومها الواسع، إلا أن العلم والفن يختلفان مقصدًا وسبيلًا ووسيلة، فالعلم مقصده الحقيقة وسبيله المحاكمة، ووسيلته الفكر والعقل، أما الفن فمقصده الجمال، وسبيله الشعور، و وسيلته الذوق الرفيع، فهل بعد هذا نستطيع أن نختزل المعنى الواسع لمصطلح (الثقافة) بسعة الاطلاع أو امتلاك المعلومة، على الرغم من التباين الشاسع بين العلم والفن الذين هما من أجزاء وأركان الثقافة؟

لأجل ذلك حُقَّ لنا أن نغوص في أغوار هذا المفهوم وأن نستجلب أدواته، وأن نرسم أطره ومعالمه، حتى نعرف المعنى الحقيقي للشخص المثقف، والمجتمع المثقف، والدول المثقفة ونحوها.

إن المدارس والمناهج الفلسفية تختلف في اتجاهاتها في تحديد مفهوم دقيق لمصطلح الثقافة، وذلك باختلاف الزاوية التي تنظر منها إلى الموضوع، بل إن "بعض الباحثين يرى أن الثقافة أصبحت علمًا قائمًا بذاته، تساهم فيه فروع علمية مختلفة" فنجد أن المدرسة الغربية ترى أن الثقافة ثمرة الفكر، أي ثمرة الإنسان، بينما المدرسة الماركسية ترى أن الثقافة في جوهرها ثمرة المجتمع.

ومن هاتين المدرستين انطلق المفكرون في تحديدهم لمفهوم الثقافة، فمن المدرسة الغربية يذهب (رالف لنتون) إلى أن الثقافة كلٌّ تتداخل أجزاؤه تداخلًا وثيقًا، ولكن من الممكن أن نتعرف فيه على شكل بنائي معيّن، أي نتعرف فيه على عناصر مختلفة هي التي تكوّن الكل، بينما يرى (وليام أوجبرن) أن الثقافة مادية وأخرى متكيّفة، فالأولى تضم الجانب المادي من الثقافة وهي مجموعة الأشياء وأدوات العمل والثمرات التي تخلقها، والثانية تضم الجانب الاجتماعي كالعقائد والتقاليد والعادات والأفكار واللغة والتعليم، وهذا الجانب الاجتماعي هو الذي ينعكس على سلوك الأفراد. 

ومن المدرسة الماركسية انطلق (د. كونستا نتينوف) في تحديث مفهوم الثقافة من موقف الفلسفة الماركسية فيقول: إن حياة المجتمع المادية واقع موضوعي ومستقل عن إرادة الناس أما حياة المجتمع العقلية أي مجموعة الأفكار الاجتماعية والنظريات والأديان ونظريات علم الجمال والمذاهب الفلسفية؛ فكلها انعكاسٌ لهذا الواقع الموضوعي، بينما يرى (ماوتسي تونج) أن كل ثقافة معينة هي انعكاس من حيث شكل مفهومها لمجتمع معين.

وبهذا يتضح لنا أن مفهوم الثقافة وأصولها وتراكيبها مشكلة قديمة مختلفة الاتجاهات بين الشعوب والمدارس والمفكرين، فلكلٍّ منهم منظارٌ وزاويةٌ خاصةٌ ينظر منها في توضيح معالم هذا المفهوم المتداول والمتناقل بين الناس والشعوب على مر الأزمان.

وبعد أن ناقش المفكر المعروف مالك بن نبي مفهوم الثقافة ومشكلتها في كتابه "مشكلة الثقافة" خلص إلى نتيجة محددة ومفهوم خاص لتعريف الثقافة بصورة عملية على أنها: "مجموعة الصفات الخُلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر على الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة الوسط الذي ولد فيه".

إذن فالثقافة يا سادة ماهي إلا تراكيب متناغمة بين عدة مقاصد سامية وغايات عالية من الأخلاق والقيم والجمال والمنطق العملي أيضا، فإذا حقق الفرد أسلوبه في الحياة العامة والسلوك القيّم الفعّال من مجموع تلك التراكيب فقد حقق الثقافة المنشودة، وبناء عليه نستطيع القول أنَّ الثقافة في معناها الشمولي ومفهومها العام العريض وبكلمات مهذبة مختصرة، تختزل لنا جميع المفاهيم والتعاريف، هي "الوعي والسلوك الفعال".

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات