الفنُّ والأثر البيئي: تحدّي الأجيال الواعية

رباب القصّاب – مسار الأحساء
هذا المقال بقلم أحد المشاركين المتميزين في برنامج صوت الشباب. صوت الشباب برنامج إثرائي يهدف لإشراك الشباب من مختلف أنحاء المملكة في عدد من الندوات واللقاءات التدريبية والحوارية التي تركز بشكل رئيس على مهارات التواصل والإقناع والتفكير النقدي

المتابِعُ للحركة الفنيّة اليوم في المملكة لا يسعه إلا أن يقف مدهوشًا أمام التسارع في الإنتاج الفني الملحوظ منذ إطلاق المملكة لرؤية 2030، ولكنّه يقف أيضًا في حيرةٍ من أمره ما بين التأييد والمعارضة لهذا التسارع ما إن ينظر في الأثر البيئي الذي يتركه هذا التسارع. وقد يبدو للوهلة الأولى أنَّ ما بين هذا الزخم في الإنتاج الفني وسعي المملكة لتقليص انبعاثات الكربون نوعٌ من المفارقة، حيث إن الإنتاج يستهلك العديد من الموارد والمواد والطاقة مما يتعارض مع مفهوم التنمية المستدامة ومعالجة الظواهر البيئيّة الناتجة عن تفاعل الإنسان مع البيئة كتغيّر المناخ. ولذلك قد يكون هنالك فريق من المعارضين لهذا التقدم في المجال الفني لتأثيره السلبي على البيئة، لكنَّ هذه المفارقة ليست خاصةً بوضع المملكة، بل تتعلّق بالإنتاج الفني في العالم أجمع. وفي الحقيقة إنَّ للفن أثرًا بيئيًّا كبيرًا كما نتصوّر، ولكن فريقًا آخر قد ينظر للفن كبوّابة لصنع التغيير وخلق وعيٍ بشؤون البيئة، ممّا يساعد في صنع أثر إيجابي بيئي من خلال الفنّ عن طريق التفاعل السليم مع البيئة وخاماتها أو على الأقل محاولة تقليص الأثر السلبي الذي تركه الإنسان عبر سنين على البيئة. 

وفي هذه الحالة قد يتساءل الفريق المعارض إن كان بإمكان الفن في المملكة أن يساهم بلعب هذا الدور المهم مع إمكانية وجود فوائد أخرى لاتخاذ هذا المنحى. الشباب السعودي اليوم طامح في أن يقوم بترك بصمته الفنية الخاصة ومشاركة ثقافته عبر فنّه فهل باستطاعته أن يحقّق هذا ويحافظ على البيئة؟ 

قد نجد الجواب عند النظر إلى حركة الفن المستدام حول العالم وكيف أنها تساهم حاليًا في لعب كلا الدورين ما بين إيصال رسالة الفنان أيًّا كانت والحفاظ على البيئة الحيوية. جديرٌ بالذكر هنا أنَّ للفنِّ المستدام أثرًا على جميع البيئات باختلافها سواء أكانت اجتماعيةً أو ثقافيةً أو اقتصاديةً أو حتى حيوية، ولكننا سنحصر تركيزنا على التأثيرات في البيئة الحيوية.

قبل الحديث عن استطاعة الفنّانين من تغيير المعادلة البيئيّة يجب علينا أن ننظر إن كان الوضع الراهن في مجال الفنون يشكّل خطرًا بيئيًّا يجب مواجهته أو إن كان بالإمكان غضُّ الطرف عنه. ولفهم المشكلة من جميع نواحيها يجب علينا تحديد مفهوم الأثر البيئي للعملية الفنية؛ هل هو مقتصر على الإنتاج الفني من دون العمليات الأخرى السابقة عليه أو التالية له أو هو ممتد من بداية سلسلة الإمداد حتى نهايتها؟ 

فقد يخطر على بال كثيرين أنَّ المشكلة لا تتعلّق سوى بالعمل الفني وحده، كأن نتكلّم عن لوحة فنيّة فلن يتعدّى الأثر الأمور المرتبطة باللوحة نفسها بشكلٍ مباشر، كنوع اللوحة والألوان، وهنا تكمن المغالطة فتحديد الأثر البيئي لجميع الصناعات يبدأ ببداية سلسلة الإمداد أي بإيصال الموادِّ الخام من قبل المورد للمنتج وتنتهي بالمستهلك. لذلك نحن نتحدّث هنا عن الأثر البيئي لعمليّة الإنتاج الفني كلِّها وليس للمُنتَج فقط. بناءً على ما سبق، فإنَّ خفض التأثير السلبي يكمن في الحد من استهلاك الطاقة والموارد في كل مرحلة من مراحل إنتاج وتسويق وبيع هذا الفنِّ منذ مرحلة الفكرة، ولذلك فإنَّ الأثر البيئي لكل نوعٍ من الفنون سيختلف حسب اختلاف نوعه وكيفية عرضه وتلقّيه، فالعائق هنا هو أنّنا لا نستطيع بالضرورة الوصول إلى الأرقام الحقيقيّة التي تعكس حجم المشكلة، وهنا يأتي دور الفنّان ومعجبيه والقائمين على رعايته لتحديد العوامل التي قد تساعد في تحويل العمليّة لتكون أكثر استدامةً وأقل ضررًا على البيئة.

لنأخذ أرقام دراسة أجريت في بريطانيا عام 2018/2019 كمثالٍ عوضًا عن أخذ الإحصائيّات العالميّة في هذا المجال. لقد سلّطت هذه الدراسة الضوء على استهلاك القطاع الفني في بريطانيا للطاقة والماء وغيرها من الموارد بالإضافة إلى رحلات العمل والتجوال المرتبطة بالفنِّ وقد وجدت بأنَّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وصلت إلى 114,547 طن. هذه الكمّيّة المنبعثة في سنةٍ واحدة فقط تحتاج إلى حوالي 115 ألف شجرةٍ للتخلص منها في قرنٍ كامل! وبالطبع لا نستطيع المقارنة بين الدولتين لاختلاف حجميهما وكثافة الإنتاج الفني بينهما، لكنّنا نشير إلى أهميّة الوعي واتخاذ الإجراءات لتقليص هذه الأرقام.

وقد يتصوّر بعض النّاس بأنَّ التحوّل الرقمي كفيل بتقليص العبء البيئي للفنّ على الطبيعة، ولكنَّ الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث أنَّ جميع الأعمال الرقميّة تستهلك طاقة وينتج عن استهلاك الطاقة انبعاثاتٌ كربونيّة قد تزيد أو تنقص اعتمادًا على نوع مصدر الطاقة أو العمليّة الرقميّة المستعملة في صنع ومشاركة هذا العمل الفني، فمثلًا يعمَدُ كثيرٌ من الفنّانين إلى تشفير أعمالهم للحفاظ على حقوقهم ومنع نسخ أعمالهم وتداولها بطرقٍ غير شرعيّة بواسطة تقنية تشفيرٍ تُدعى "إن اف تي"، وهذه العمليّة في غاية التعقيد حيث تتطلب عمليات تُديرها شبكات في أماكن مختلفة من العالم، ممّا يجعل كميّة الطاقة المستهلكة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون المترتبة على تشفير العمل الفني ضخمة جدًّا. 

يمكن تعريف الفنِّ المستدام بأنّه كل عمل يُنتَج مع مراعاة تأثيره على البيئة المحيطة له، ولذلك فإنَّ مفهوم الفنِّ المستدام أوسع من أن يُحصر في صورة واحدة أو أن يقتصر على مجال معيّن من الفنون. فمن المحتمل أنّه قد تبادرت إلى ذهنك صورة لمجسّم مصنوع من موادَّ قد أُعيد تدويرها وتجميعها، ومع أنَّ تلك الصورة ليست بالضرورة خاطئةً لكنّها صورة نمطيّة لنوع الأعمال الفنيّة التي يمكن القيام بها لتحقيق الاستدامة وصداقة البيئة. فكما أنَّ إعادة التدوير نوعٌ من أنواع الفنِّ المستدام، فالموضة الدائريّة التي تُتيح تصميم أزياء واكسسوارات قابلة للعودة إلى الغلاف الحيوي بعد استخدامها من دون أثر سلبيٍّ هي كذلك نوعٌ من أنواع الفنِّ المستدام، وعمارة الأبنية الخضراء ومنحوتات الطاقة المتجدّدة أيضًا عبارة عن فنٍّ مستدام. 

وهناك صور من الفنِّ المستدام لا تستهدف فقط الحدَّ من إضرار الإنسان بالبيئة، بل تجعل من الفنِّ سبيلًا لإزالة الأضرار التي تسبَّب بها الإنسان على مدار السنين، كالفنِّ الإيكولوجي الذي يحاول استعادة النُّظم الإيكولوجية لوضعها السابق، وقد ازدادت أعداد الكائنات البحرية في المنطقة نتيجةً للاختيار الواعي للمادّة التي صُنعت منها المجسّمات والمنحوتات في بعض المتاحف.

وكما نرى فإنَّ جميع هذه الصور من الأعمال الفنيّة تحاول تقليل الأثر السلبي على البيئة الحيويّة من حولنا. وبناءً على جميع ما تقدّم؛ نستطيع القول بأنَّ الفنَّ المستدام أو المبني على وعيٍ بالأثر البيئي سيخلق فرصًا جديدة وفريدة من نوعها لكنّه سيتطلّب شراكات ومبادرات من مختلف المنظومات ليكون بالقوة والتأثير المطلوبين. قد يعترض بعض النّاس بأنَّ هذا النوع من الفنون لن يكون مرغوبًا لا من قِبل الفنّانين ولا المستثمرين؛ لأنّه لا يشتملُ على ربحٍ ماديّ أو عائدٍ شخصيّ، لكنّنا نرى مع هذا أمثلةً على اهتمام الفنّانين المعاصرين والمستثمرين بهذا النوع من الفن. فمثلًا قامت إحدى الفنّانات الصغيرات بتجميع وإعادة استعمال أغطية القوارير لتشكيل صورة الموناليزا. ونرى المعماريين السعوديين على منصّة تويتر يناقشون موادَّ العمارة الخضراء وفنونها؛ فالرغبة موجودة من قبل الفنّانين مع ضرورة التأكيد على تكثيف التعريف بهذا النوع من الفنِّ لجعل الفنّانين والمهتمين بالفنِّ على وعي بأثره البيئي. 

باستطاعتنا تسليط الضوء على هذا الموضوع من خلال إقامة المؤسّسات لجلساتٍ أو دوراتٍ تدريبيّة وقيام الجامعات بتوفير مواد دراسية متعلقة بهذا المجال. أمّا على صعيد الربح المادي فقد أثبتَ هذا النوع من الفنون قدرته على جلب السياحة لأماكن فقدت وميضها حتى بالنّسبة لسكّانها الأصليين، فبواسطة فنِّ الأرض استُغلّت مساحاتٌ من الأشجار أو المحاصيل الزراعيّة للقيام بأعمالٍ فنية مميزة جذبت السُّيّاح إليها. وبإمكان الشراكات بين الفنّانين والعاملين في قطاع الطاقة المتجدّدة أيضًا أن تثمر بمنحوتات طاقة متجدّدةٍ تكون محلَّ إثارة وجذب. وكي نحصل على هذه الفرص فيلزمنا أولًا تسليط الضوء على هذا الفنَّ في جامعاتنا وخلق فرصٍ داعمةٍ له من قبل القطاع الخاص أو الحكومي وإعطاء محفّزاتٍ ومنح جوائز أو منافسات تتيح للفنان الاطلاع على هذا النوع من الفنِّ وممارسته. وقد تسنح فرصٌ واعدة قريبًا في المشاريع الجديدة التي تُعنى بالبيئة مثل نيوم أو مشروع البحر الأحمر. وفي الختام فلنأخذ مقولة الموسيقار السويسري ارنست ليفي بعين الاعتبار: "ستبدأ الإنسانيّة بالتحسّن عندما نأخذ الفنَّ على محمل الجدِّ كالفيزياء أو الكيمياء أو المال."

 

 

المراجع:

 

  1. Sustaining great art and culture, Arts Council Environmental report 2018/19
  2. The carbon footprint of creating and selling an NFT artwork.
  3. What does sustainaibility mean for the art world?
logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات