الخدمات المصرفية المفتوحة

ليس مفاجئًا أنّنا نشهد تحوّلًا رقميًا متسارعًا للغاية في القطاع المالي نحن مشاركون فيه. فمع عالم يصبح أكثر ترابطًا، أدّى التقدّم التقني، إلى جانب ازدياد الطلب على تجربة مصرفية أفضل، إلى ترقّب الجيل القادم من الخدمات المالية بشغف كبير.
د يبدو من البساطة بمكان اعتبار أنّ تشريعًا واحدًا (وتغييرًا تكنولوجيًا في نهاية المطاف) يمكن أن يغيّر من طريقة عمل قطاع الخدمات المالية العالمي، ولكنّ تعزيز البنية التحتية ونشرها يقودان غالبًا إلى انعكاسات أقوى ونتائج طويلة المدى لا يمكن تصوّرها حينذاك.

ليس مفاجئًا أنّنا نشهد تحوّلًا رقميًا متسارعًا للغاية في القطاع المالي نحن مشاركون فيه. فمع عالم يصبح أكثر ترابطًا، أدّى التقدّم التقني، إلى جانب ازدياد الطلب على تجربة مصرفية أفضل، إلى ترقّب الجيل القادم من الخدمات المالية بشغف كبير.

شهدت عدّة مجالات حتّى الآن تغييرات جذرية، مثل المدفوعات، والإقراض، والاستثمارات، والحسابات الجارية، والحوالات المالية. ويُرجّح لهذه القائمة أن تضمّ المزيد من المجالات عندما ينتقل القطاع إلى مرحلة جديدة مدفوعًا بحركة السوق والتغيير في اللوائح والتنظيمات، مثل الخدمات المصرفية المفتوحة (Open Banking).

ينبغي لكلّ قطاع، لكي يبقى قادرًا على المنافسة والاحتفاظ  بأهمّيته، أن يضمّن تجربة المستخدم حلولًا مالية مدمجة. على سبيل المثال، يمكن لتجّار البقالة الذين كانوا يعتمدون على الدفع النقدي عند نقاط الخروج في السابق أن يعتمدوا الآن طرقًا جديدة للدفع تسمح لعملائهم أن يدفعوا المال باستخدام "رموز الاستجابة السريعة" (QR codes) التي تتّصل مباشرة بالمحفظة الإلكترونية الموجودة على هواتفهم.

ومن أجل دفع وتطبيق هذه الموجة الجديدة من الابتكار المالي، ينبغي إتاحة بنى تحتية مالية موثوقة وآمنة لجميع الأنشطة التجارية، بطريقة تسمح للتقنية المالية بالانتشار أفقيًا عبر جميع القطاعات. ومع ذلك، يجب حصر الاتّصال بهذا النوع من البنى التحتية، مثل بيانات العملاء المالية وسلاسل الدفع، بمجموعة صغيرة من الشركات الكبرى المنظّمة.

الخدمات المصرفية المفتوحة في الشرق الأوسط

انطلق مفهوم الخدمات المصرفية المفتوحة في عام 2018 في المملكة المتحدة من أجل تعزيز تكافؤ الفرص بين جميع المؤسّسات المالية. هذا التشريع الذي صاغته "هيئة التشريع المالي" (FCA) وفرضته على أكبر تسعة مصارف، مما أجبر المؤسّسات المالية على توفير واجهات برمجية (APIs) مفتوحة تتيح الوصول إلى بيانات العملاء المالية وسلاسل الدفع. وبعد ذلك، بدأت الجهات التنظيمية في عشرات الأسواق العالمية تتبنّى الأمر، مثل الاتّحاد الأوروبي ("توجيه خدمات الدفع" المنقّح PSD2)، وأستراليا، وسنغافورة، والبحرين.

أدّت الخدمات المصرفية المفتوحة إلى إعادة تمكين العملاء من التحكّم ببياناتهم الشخصية، ممّا يسمح لهم بالانتقال بين مزوّدي الخدمات بتكلفة بسيطة أو بتكلفة معدومة تقريبًا، بحيث تجري التحويلات المصرفية عن طريق تطبيقات طرف ثالث تصل إلى بيانات العميل المالية بعد الحصول على موافقة صريحة منه. وهذا يعني أنّ الخدمات المصرفية المفتوحة أعادت العملاء إلى صلب سلسلة القيمة، وهو الأمر الصائب بلا شكّ. وبالنتيجة، وفّر اعتماد هذا النوع من الخدمات رحلة أكثر سلاسة للعميل، وسرّع من عمليات التعرّف على العملاء وتعزيز مكافحة غسيل الأموال، وإمكانية وصول أفضل إلى الخدمات الإئتمانية، ووفّر خيارات متعدّدة وأفضل لعمليات الدفع؛ وهذه مجرّد البداية!

واليوم، يستخدم المجتمع المالي الخدمات المصرفية المفتوحة للبناء على القيمة المقترحة الحالية وتوسيع عروض المنتجات والخدمات. أما في المستقبل، فسينتج عن هذا الاتّصال الهائل موجةٌ جديدة من الخدمات والمنتجات المالية التي لم يتصوّرها أحدٌ قبلًا.

وبالتالي، فإنّ المؤسّسات المالية وشركات التكنولوجيا المالية مدعوّة إلى بناء شراكات استراتيجية مع الحكومات التي تقدّم الدعم في هذا المجال، وإلى العمل عن كثب مع الجهات الناظمة التي تحرص على توسيع القدرات المالية للمنطقة. وبالتزامن مع الحماس الذي تشهده التشريعات، إلى جانب القوة التي يتمتّع بها مجتمع التقنية المالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنّ الاستثمارات المتزايدة في المنطقة ستمنح الشركات الأموال اللازمة من أجل النموّ وإحداث التأثير. ويمكن كذلك للمنطقة أن تستفيد من تجربة المملكة المتحدة وغيرها، من أجل تسريع العمل والاستفادة من هذا الإطار بذكاء للبناء عليه والمضيّ قدُمًا.

الخدمات المصرفية المفتوحة ودورها في رؤية السعودية 2030

تشتمل الخدمات المصرفية المفتوحة في المملكة العربية السعودية على إمكانات هائلة للابتكار. ولدعم تطوير الجيل القادم من الخدمات المالية، وفق ما تنصّ عليه "رؤية السعودية 2030"، أعلن "البنك المركزي السعودي" (ساما) عن خططه لبدء العمل بسياسة الخدمات المصرفية المفتوحة في منتصف عام 2022.

ستلعب الخدمات المصرفية المفتوحة دورًا أساسيًا في "رؤية 2030"، فتسريع النمو التكنولوجي في القطاع المالي ليس إلّا موضوعًا بين المواضيع الأخرى الشاملة. وسيؤدّي هذا النموّ إلى دفع المبادرات المفيدة للعملاء والمنظومة المالية على حدّ سواء في المملكة نحو التقدّم بأمان.

تتضمّن أهداف "البنك المركزي السعودي" (ساما) على تطوير منظومة لمجتمع غير نقدي، على أمل الوصول إلى تعاملات غير نقدية بنسبة 70% بحلول عام 2030، وزيادة تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسّطة بنسبة 11%. ومع طرح الخدمات المصرفية المفتوحة، أصبح بإمكان المنشآت التي كانت تعتمد على المصارف الكبرى لتأمين احتياجاتها المالية أن تلجأ إلى المقرضين من غير المصارف الذين يتمتّعون بثروة من البيانات الجديدة المرتبطة بحسابات المقترضين المصرفية. ويمكن لهذا الأمر أن يعود بالمزيد من المعلومات عن الجدارة الائتمانية للمنشآت الصغيرة والمتوسّطة التي تنتشر بكثرة في المملكة والتي لا تستفيد من الخدمات المصرفية، كما يمكن أن يوفّر جرعة إنقاذ للشركات التي تمرّ بصعوبات مالية.

هذا المثال ليس إلّا أحد الأمثلة الكثيرة عن كيفية الاستفادة من الخدمات المصرفية المفتوحة لتصبح منارة الابتكار في جميع أنحاء البلاد. ولتحقيق هذه الرؤى، سيكون من الضروري أن يحصل تعاون وثيق بين الجهات الناظمة والمؤسّسات المالية والأنشطة التجارية. ولن يمر ّوقت طويل قبل أن تسلك الجهات الناظمة في مختلف الأسواق هذا الطريق من أجل ضمان أن يمتلك كلّ بلد من البلدان الأدوات اللازمة لتسريع التغيير المجتمعي عن طريق القطاع المالي.

مستقبل الخدمات المصرفية المفتوحة: سوق مالية مفتوحة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط

مع استمرار اعتماد الواجهات البرمجية (APIs) كأحد أشكال الترابط ضمن المجتمع المالي، ستسهّل هذه التقنية المزيد من الاتّصال، وتلبّي المزيد من الاحتياجات، والابتكار في جميع القطاعات، وستُحدِث تغييرًا جذريًا في الممارسات التجارية التي يفوق عمرها عشرات السنوات، وستعيد ترتيب الحوافز مع العميل في المقام الأول. ولن يقف المستقبل عند الخدمات المصرفية المفتوحة فحسب، بل في المدى القريب سنرى المزيد من الاستخدامات المختلفة للبيانات المفتوحة التي تؤدّي إلى توفير المزيد من عمليات الإقراض، والاستثمارات، والتأمين، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال مشاركة البيانات بصورة أكبر.

قد يبدو من البساطة بمكان اعتبار أنّ تشريعًا واحدًا (وتغييرًا تكنولوجيًا في نهاية المطاف) يمكن أن يغيّر من طريقة عمل قطاع الخدمات المالية العالمي، ولكنّ تعزيز البنية التحتية ونشرها يقودان غالبًا إلى انعكاسات أقوى ونتائج طويلة المدى لا يمكن تصوّرها حينذاك.

نشير إلى "متجر آبل" (App Store) كأحد الأمثلة على دور البيانات مفتوحة في إنشاء منظومة من المبتكرين الجدد. فبعد أكثر من عقد على تأسيسه، أصبح المتجر قوةً لا يُستهان بها، لا سيما وأنّه ساهم في رفع عائدات شركة "آبل" إلى نحو 64 مليار دولار أميركي في عام 2020، والأهمّ من ذلك أنّه أنشأ قطاعًا جديدًا لتطبيقات الأجهزة المحمولة التي أصبحت أساسية في حياتنا اليومية.

يؤدّي فتح مصادر البيانات أمام مجتمع جديد، مع إتاحة القدرة على إنشاء عدد كبير من التطبيقات المالية، إلى إنشاء سوق غير رسمية للخدمات المالية المفتوحة. ولذلك، فإنّ الطريقة الأفضل لتحقيق انتشار واسع تتمثّل في العمل مع مؤسسات تمتلك قاعدة قوية من العملاء والتعامل مع البيانات التي توفّرها الخدمات المصرفية المفتوحة، ممّا يسمح لشركات التكنولوجيا المالية والمؤسسات المالية بتوفير قيمة تتجاوز مقترحاتها الأساسية.

خلاصة

تتّسم المنظومة المالية بأنّها دائمة التغيّر، وكما نرى، فقد بدأت مرحلة تفكيك الخدمات المالية. فها هي شركات التقنية المالية قد غيّرت المفهوم المتخيّل للخدمات المالية وبدأت بتجديد مستقبل الرفاهية المالية من خلال تفكيك القطاع وإعادة تصوّر ما يمكن أن يبدو عليه.

سيطلق مفهوم الخدمات المصرفية المفتوحة ثورة في كيفية معالجة البيانات، وفي طريقة إنجاز المدفوعات، وطريقة تفاعل الخدمات المالية فيما بينها، ممّا سيتيح المزيد من الفرص لبناء تطبيقات قد تغيّر مجرى الأمور.

ولمواكبة هذا المستوى من الابتكار، ينبغي لكلّ واحد منّا أن يقوم بدوره ضمن المجتمع المالي. فالقطاع المالي، سواء من خلال بناء الشراكات، أو توفير عروض المنتجات والخدمات المستقلّة، أو إقرار تشريعات ولوائح تقدّمية، أو إجراء استثمارات مربحة، حتماَ سيستمرّ بتغيير حياة السكّان كما سيترك أثرًا ماليًا طويل الأجل في المنطقة.

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات