الرموز الغير قابلة للاستبدال و بشائر الويب الثالث

في المرة الأولى التي صادفت فيها كلمة "البلوك تشين" (Blockchain) في إحدى الفعاليات، لم أعِرها أيّ اهتمام معتبرًا إياها كأيّ كلمة من الكلمات الرائجة.
تُعتبر البلوك تشين أحد أعمدة الويب 3، ومع ذلك يُرجّح أنّ الكثيرين لم يفهموها جيدًا بعد، ليس بالضرورة بسبب النقص في المعلومات بل على الأرجح بسبب النقص في التخيّل - وهو الالتباس الذي وقعت فيه في البداية عندما كوّنت نظرتي الأولى إلى البلوك تشين.

في المرة الأولى التي صادفت فيها كلمة "البلوك تشين" (Blockchain) في إحدى الفعاليات، لم أعِرها أيّ اهتمام معتبرًا إياها كأيّ كلمة من الكلمات الرائجة. وبعدما مرّت أمامي للمرّة العاشرة في أحد عروض الأفكار لمشروع ناشئ، بدأت أضحك واستبدلت الكلمة في ذهني بكلمة (قاعدة بيانات)، قبل أن يمرّ بعض الوقت لأدرك كم كنت مخطئًا، بل مخطئ جدًا.

كمؤسّس لشركة ناشئة، أرى أنّ الفضول العلمي من الأمور الضرورية واعتبره ميزة تنافسية، ولكنّني برغم ذلك لم أستطع أن أفهم آنذاك المعنى الحقيقي والآثار المترتّبة على تقنية البلوك تشين، سأحاول في هذه المقدمة أن أنتقل منها إلى "الرموز غير القابلة للاستبدال" أو ما يعرف بـ (Non-fungible token- (NFTs؛ وكما يقول إيلون ماسك: "يمكنني أن أكتفي بمشاهدة ما يحدث، أو أن أكون جزءًا منه".

لطالما اعتبرنا كبشر أنّنا وصلنا إلى أقصى ما يمكن تحقيقه من التقدّم التكنولوجي وأنّه لا يمكن تحقيق المزيد من التغيير، ولطالما أثبت التاريخ أنّنا كنّا على خطأ. في عام 1923، ظنّ والت ديزني أنّه فوّت على نفسه الطفرة التي كانت تحقّقها الرسوم المتحرّكة، غير أنّه استطاع بعد سنوات أن يجعل اسمه مقترنًا بهذه الصناعة. وحتّى الآن، في سنة 2021، لمّا ندرك بعد جميع القدرات الكامنة في الويب الذي لا يزال في بداياته، ونحن لا نزال في البداية. تقوم الأعمال الأكثر إبهارًا والأكثر ابتكارًا في مجال التكنولوجيا على الاستفادة من البنى التحتية الأساسية للإنترنت وإعادة بنائها بصور مختلفة، وينبغي أن لا نكون من الذين يسبقهم هذا التحوّل. صحيح أنّ المفردات التي تدور في فلك تقنية البلوك تشين والجيل الثالث من الويب (أو الويب 3 اختصارًا) والـ(NFTs) مثالية للغاية، ولكنّ تبدو على الرغم من ذلك كأنّها مدرسة فكرية أكثر منها تكنولوجيا محددة. وقد يكون ذلك أحد الأسباب الكثيرة التي تجعل كثيرين لا يأخذونها على محمل الجد.

ربّما يكون من الحكمة أن نعود إلى الوراء قليلاً ونسأل ما هي تقنية البلوك تشين؟ لنعتبرها قاعدة بيانات مشتركة وموزّعة ومفتوحة، وأنّها كأيّ تقنية أخرى قد تنجح في بعض الحالات وقد تكون غير ذات جدوى في أخرى. يمكن تفسير البلوك تشين تقنياً بأنّها كمبيوتر افتراضي يدير شبكات مبنية على أجهزة كمبيوتر فعلية، ويمتلك خصائص وصلاحيات أحدث تفوق النماذج السابقة من الكمبيوترات. أمّا الأشخاص الذين لم يكوّنوا إلّا فكرة أساسية عن تقنية البلوك تشين مثلما كنتُ أنا، فيرون أنّها بمثابة قاعدة بيانات بطيئة.

أمّا اليوم، فعندما أنظر إلى البلوك تشين، أرى فيها شبكة إنترنت قابلة للبرمجة تخزّن بأمان بيانات مشتركة وحسابات منطقية. والبلوك تشين القابلة للبرمجة والأكثر شعبية حاليًا هي "إيثيريوم" (Ethereum) التي أصبحت بأهمية متجر التطبيقات لأنّها توفّر فرصاً ريادية يستفيد منها رواد الأعمال ويؤسّسون عليها مشاريع لا تُعدّ ولا تحصى عليها.

تُعتبر البلوك تشين أحد أعمدة الويب 3، ومع ذلك يُرجّح أنّ الكثيرين لم يفهموها جيدًا بعد، ليس بالضرورة بسبب النقص في المعلومات بل على الأرجح بسبب النقص في التخيّل - وهو الالتباس الذي وقعت فيه في البداية عندما كوّنت نظرتي الأولى إلى البلوك تشين.

لنعد إلى عام 1991، أي عند ابتكار النسخة الأولى من الإنترنت والتي تُعرف بالجيل الأول للويب (أو الويب 1). في ذلك الوقت، لم تكن توفر تلك النسخة للناس سوى إمكانية مشاهدة المحتوى فحسب، مثل قراءة المجلّات من خلال النقر على الروابط للتنقّل بين صفحاتها. في المقابل، انطلق الجيل الثاني للويب (أو الويب 2) في عام 1999 وركّز على المحتوى التفاعلي الذي ينشئه المستخدمون بطريقة سهلة أسّست لإنشاء مجتمعات افتراضية. أما الويب 3 الذي بدأ يتسلّم زمام الأمور منذ عام 2020، فهو النسخة المبتكرة الأحدث من الإنترنت المبنية على سلاسل البلوك تشين، مثل "بيتكوين" و"إيثريوم" و"سولانا" وغيرها، وهو إنترنت يمتلكه المستخدمون والمبتكرون وتسود فيه رموز التوكِنز (tokens). وإذا اعتبرنا التوكِنز "درجات مجتمعية"، فكلّما جمعت عددًا أكبر منها في محفظتك الإلكترونية ستزداد ملكيتك وحظوتك وقدرتك على اتّخاذ القرار في هذا المجتمع. من الأمور الأساسية في الويب 3 أن تغيّر نظرتك إلى الجمهور من مجرّد مستهلكين فحسب إلى مشاركين في الابتكار وإنشاء المحتوى. أمّا العنصر المهم الآخر، فأن تفهم أنّ الويب 2 يراد له البقاء بسلام إلى جانب الويب 3، وأنّ الكثير من الخدمات ستبقى على نسخة الويب الحالية.

يختلف الويب 3 عن الويب 2 في جانب محدّد للغاية وهو أنّه مبنيّ للتشغيل المتبادل (interoperability) [أي يسمح للبرمجيات وأنظمة الكمبيوتر بتبادل المعلومات والتحقق منها]، على عكس المنتَجات التي يكون لكلّ منها منصّته الخاصة المغلفة. على سبيل المثال، تخيّل أن تكون قادرًا في الويب 3 على استخدام بعض جوانب "فيسبوك" لتدمجها مع عناصر أخرى من "أمازون"، ثمّ تقدّم ميزة من ميزات "تيكتوك" في منتج من "أنغامي"، وكلّ هذا يقوم به مجموعة من المشاركين في هذه العملية. يُشار إلى هذه الميزة التي يتميز بها الويب 3 باسم "كومبوزابيليتي" (Composability)، أي قابلية تركيب برمجيات وتطبيقات على برمجيات وتطبيقات أخرى، بحيث يتعامل النظام مع المكونات المتداخلة ليجمعها في مجموعات مختلفة من أجل تلبية متطلبات محدّدة. هذه العملية يصفها كريس ديكسون، رائد الأعمال والمستثمر الأميركي، بأنّها "القدرة على مزج مكوّنات البرمجيات ومواءمتها مع بعضها مثل مكعّبات الليغو"، وأقول إنّها إحدى بشائر البرمجيات مفتوحة المصدر المطبّقة في اقتصاديات الويب الجديدة.

تجسّد الـ(NFTs) أحد تجليّات الويب 3 الواضحة، وهي ستساعدنا على فهم نموذج العمل المطلوب للبدء ببناء اقتصاد جديد تنشأ فيه القيمة وتتراكم لتنمو عن طريق الأشخاص. "الرموز غير القابلة للاستبدال" (Non-fungible tokens) هو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى أحد الأصول الرقمية الفريدة التي يمكن تعقّب ملكيتها عبر تقنية البلوك تشين. ويمكن اعتبار الـ(NFTs)  كجسر بين الويب 3 والاقتصاد الافتراضي حيث تمثّل سلاسل البلوك تشين سجلّات حقوق الملكية لكلّ ما هو ذي قيمة.

ينبغي التركيز على كلمة "قابل للاستبدال" (fungible) في "الرموز غير القابلة للاستبدال" (NFTs) وكيف تمثّل الـ(NFTs) بطريقة فريدة. لنشرح أكثر، إذا امتلكتُ ريالًا سعوديًا واحداً فهو قابل للاستبدال لأنّه قابل للتبديل (interchangeable)، إذا لا يهمّ أيّ ريال امتلك طالما لديّ ريال واحد. ولكنّ الشيء "غير القابل للاستبدال" يكون فريدًا للغاية، وهي صفة من صفات الـ(NFTs) بصفته أحد الأصول المملوكة على البلوك تشين. تعامِل الـ(NFTs) كلّ عنصر تمثّله على أنّه عنصر نادر وأصلي، وتتراوح أصولها من السلع الرقمية، بين الفنون الرقمية الموجودة داخل العالم الافتراضي، وملكية الأصول المادية مثل الملابس أو العقارات. ومن وجهة نظر استشرافية، أشير إلى الـ(NFTs) على أنّها تُستخدم للتحكّم بالقدرة على الوصول إلى مشاريع يمكن أن تنشأ عنها مجتمعات معيّنة.

ثمّة جانب مهمّ يتمثّل في أنّ التوكنز يدعمها عقد اجتماعي بين منشئها والمجتمع الذي يحيط به. بالإضافة إلى ذلك، بسبب وجود التوكن على البلوك تشين تصبح ملكيته (التوكن وليس الرمز غير القابل للاستبدال NFT) قابلة للبرمجة وقابلة للتحقق وقابلة للتركيب وآمنة وقابل للتحويل؛ وكلّ هذه الخصائص تمهّد الطريق أمام رواد الأعمال لاستخدامها في مجالات جديدة.

بدأت الـ(NFTs) بتلبية عدد من الرغبات البشرية مثل الشغف بالتجميع، وهو ما ظهر مثال عنه قبل سنوات مع جامعي بطاقات البوكيمون. نميل بالفطرة جميعًا إلى تجميع الأشياء التي نراها جميلة أو نرى أنّها تعني لنا شيئًا، مثل القطع الفنية واللوحات والمنحوتات، فنحن نريد أن نعبّر عن أنفسنا من خلال صنع هوية فريدة وذات مغزى. ولكن الـ(NFTs) بقيت حتّى وقت قريب مثار شكوك الكثيرين بسبب التقلّب في قيمتها. ويلخّص آرون ليفي، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "بوكس" (Box) للتخزين السحابي، الأمر بأنّ "القفزة الكبيرة في أسعار الـ(NFTs) دفعتني إلى صرف الانتباه عن القيمة الأكبر التي تنجم عن البلوكتشين. من الواضح أنّ قاعدة البيانات المفتوحة والثابتة والتي لا تخضع لسيطرة أي شخص، في وقت يمكن لأيّ تطبيق أن يتواصل معها وأن يُبنى عليها من أوّل يوم، هي قاعدة بيانات قوية للغاية".

لهذا السبب بالتحديد، ينبغي أن ندرك أنّ الـ(NFTs) هي المستقبل، ولذلك علينا أن نتوقّف عن محاولة تفسيرها باستخدام مفاهيم قديمة. فهذه الرموز تساهم في قيام اقتصاد جديد بقواعد جديدة، بخلاف ما كان يحدث أيام الويب الأولى عندما كان أغلب الناس يشكّكون في عمل التجارة الإلكترونية، أو في السبب الذي يدفع البعض إلى توثيق حياتهم بالصور على شريط أخبار، أو في التباهي بعدد الإعجابات على جملة من 140 حرفاً.

ترتبط الـ(NFTs)، كونها مبنية على البلوك تشين، بعقود تسمح لمنشئيها بمراكمة القيمة باستمرار، وذلك على عكس العمل الذي يستفيد فيه المالك الأخير من القيمة المتراكمة، مثل اللوحات. يتضمن الـ(NFT) تنسيقًا برمجيًا يوفّر القيمة لمنشئه الأساسي في كلّ مرّة يُباع فيها. وإذا ما طبّقنا الأمر على الويب 2، تخيّل أن يحصل أحد ما في أيّ وقت على قيمة من المحتوى الذي تنشئه وتنشره على الإنترنت، وأنّك ستحصل على جزء من هذه القيمة، سواء كان مقالة أو تدوينة أو فيديو على "يوتيوب" أو تغريد على "تويتر" أو صورة أو حتى مقطع موسيقى بصيغة mp3. وبالتالي، فإنّ القيمة الأساسية التي يجنيها منشئو المحتوى من الـ(NFTs) تتمثّل في التخلّص من الوسطاء الساعين إلى الحصول على ريع من عملهم، من "إنستغرام" إلى "نيويورك تايمز" إلى غيرهما الكثير. إذا ما نظرنا إلى الموسيقيين الذين يمتلكون قاعدة معجبين متابِعة لهم، ولا يجنون في عالم الويب 2 أكثر من 20% من الإيرادات بسبب تسرّب القيمة إلى الوسطاء، ألا يُعتبر ذلك ابتكارًا يحدث تغييرًا جذريًا في القطاع؟ أشير إلى مثال آخر هنا، وهو تطبيق "كابتشر" (Capture) الذي يقوم على البلوك تشين، حيث يسجّل صورك على إحدى سلاسل بلوك تشين  لكي تحصل على أجر من استخدامها عبر الإنترنت بصفتك صاحبها الأصلي.

لا تشتمل الـ(NFTs) على أي قيمة جوهرية، وقد ينتهي بها الأمر مثل أيّ أداة من أدوات الويب 2 في حال لم تُراعَ كما ينبغي. في الواقع، تكتسب الـ(NFTs) قيمتها لدى عرضها واستخدامها وترويجها في مجتمعات تتفاعل مع بعضها، وإلّا ستفقد قيمتها بخلاف ذلك. توفّر هذه الرموز حلًّا لمنشئي المحتوى عندما يصبحون محطّ اهتمام المجتمعات التي تجتمع للاحتفال بالعوالم الافتراضية. ومن الأمثلة على ذلك، منصة "ديسينترالاند" (Decentraland) التي تتيح شراء الملابس وبيع الأراضي في عالم افتراضي.

لا يزال الناس حتّى اليوم في عام 2021 ينشرون محتوى ذا قيمة يجري تبادله مجّانًا مع المتابعين مقابل الإعجابات وإعادة التغريد وعدد المشاهدات. وهذا يختلف تمامًا عمّا تعد به الـ(NFTs) التي ستوفّر بديلًا لمنشئي المحتوى يمكنهم من خلاله العمل وتحقيق عوائد مستمرة من عملهم وليس من الإعلانات.

ومع ذلك، ربّما تفترض وجهة النظر غير المنحازة لـ(NFTs) أنّه هذه الرموز ليست إلّا بداية تحوّل جذري للإنترنت كما نعرفه. لتفسير الأمر أكثر، يمكن أن يعتمد الرمز الفعلي وذي القيمة الحقيقية على عقد ذكي قائم على تقنية البلوك تشين بحيث يتيح أحد رموز التوكِن الخاصّة بأغنية ما تقديم عائدات مستمرّة على البثّ لأصحاب الحقوق، أو يسمح توكِن آخر على الويب 3 بتحديد ملكية الأرض، أو حتّى يسمح توكِن لتوكِن آخر أن يمتلك صلاحيات أكبر.

ستغيّر الـ(NFTs) اقتصاديات منشئي المحتوى بطرق مختلفة، وتحديد مستوى الأسعار أحد الجوانب الهامة التي ستتغيّر. في النماذج التي تعتمد على الإعلانات، تُحقّق العائدات بصورة موحّدة بغضّ النظر عن قاعدة المعجبين الكبيرة التي تتفاعل مع الإعلان، بعدما يصل إعلان على "يوتيوب" إلى أحد المعجبين الشغوفين أو المبتدئين الذين بدورهم لا يمكنهم التفاعل أكثر مع الفنّان. أما مع الـ(NFTs)، فلم يعد منشئو المحتوى بحاجة إلى أي وسيط أو طرف ثالث، وأصبح بإمكانهم تقديم مستويات مختلفة من عيّنات الأسعار، ممّا يوفّر إمكانية الوصول إلى المحتوى ويصون حقوق الملكية بطريقة لم يسبق لها مثيل. قارن الأمر بالقدرة على الوصول إلى مجتمع وأن تكون في الصفّ الأوّل منه أو الصفّ الأخير، بناءً على مدى إخلاصك له.

لا تزال الـ(NFTs) جديدة إلى حدٍّ ما، ويُتوقّع أن تتطور مع تزايد استخداماتها حيث تُحاك عليها تجارب رقمية جديدة، مثل الأسواق وشبكات التواصل الاجتماعي والألعاب والعوالم الافتراضية. يشبه ذلك ألعاب الفيديو الحديثة التي تَستخدم الرموز القابلة للاستبدال (fungible tokens) مثل "في باكس" (V-Bucks) في لعبة "فورتنايت" والسلع الافتراضية مثل ملابس الشخصيات في الألعاب.

حظيَت الـ(NFTs) بالكثير من الاهتمام في الآونة الأخيرة بسبب المبالغ الكبيرة التي حققتها المبيعات بهذه الرموز بالإضافة إلى تاريخ العملات المشفّرة المتذبذب بين الازدهار والانهيار. وبالمثل، يُرجّح أن يكون لـ(NFTs) تقلّباتها أيضاً، وهي بالفعل تواجه تحدّيات مثل أن تواجه، كأيّ مفهوم جديد، أشخاصاً مشكّكين يحاولون مضايقة المستهلكين الذين لم يدركوا القيمة الجديدة بالكامل. لا يمكن النقر على   الـ(NFTs) وحفظها بسهولة كونها من الأصول الرقمية المبنية على البلوك تشين بالإضافة إلى طبيعة الأكواد والعقود المرتبطة بها.  الـ(NFT) رمز قويّ ويوازي في قوّته العقد الاجتماعي بين منشئ المحتوى والمجتمع الداعم الذي يحيط به، بحيث كلّما شاركت صورة (NFTs) ازداد نموّ المجتمع وبالتالي القيمة الجوهرية لسلسلة البلوك تشين الخاصة بالـ(NFTs).

تواجه الـ(NFTs) كذلك مشكلة تتمثل في أنّ معظم التعاملات تحصل عبر سلسلة البلوك تشين الخاصة بـ"إيثريوم". وهذه الأخيرة، لكي تعمل، تستخدم ما يُعرف برسوم الغاز (gas fees) لتغطية تكاليف التشغيل، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة ضريبة على البنى التحتية أو رسماً لاستخدام البلوك تشين. تفرض "إيثريوم" (ETH) رسوم غاز مرتفعة بسبب طبيعة بنيتها التحتية، ولذلك لا يمكن لـ(NFTs) منخفضة التكلفة أن يستمرّ اعتمادها على سلسلة البلوك تشين الخاصة بـ"إيثريوم" مع هذه الأسعار.


وعلى الرغم من العدد الكبير من سلاسل البلوك تشين الجديدة مثل "سولانا" (Solana) و"ألغوراند" (Algorand) و"كاردانو" (Cardano)، لن يستطيع أيّ منها أن يزيح "إيثريوم" عن عرشها في الوقت الحالي، لا سيما وأنّ أكثر من 80% من الـ(NFTs) يُبنى على "إيثريوم" حاليًا. ومع ذلك، يظهر بصيص أمل مع ازدياد أعداد المطورين الذين يستخدمون "سولانا" للبناء عليها، ولكن لا يزال أمامنا الكثير ممّا يتعيّن القيام به لكي يقتنع المشكّكون بالويب 3.

سيبدو الأشخاص والعلامات التجارية المرتبطين بهذا العالم الجديد مختلفين كلياً عمّا نعرفه. فالمجتمعات الناجحة في عالم الـ(NFTs) مثل "كريبتو بانكس" (CryptoPunks) و"بورد إيبس" (Bored Apes) وغيرهما، هي من السكّان الأصليين في عالم التشفير، في حين أنّ المجتمعات المنتشرة ثقافيًا في العالم الحقيقي التي تنجح في التغيير عددها قليل جدًا.وهذا بالضبط السبب الذي يجعل من هذا العالم فرصة كبيرة وأمر يصعب فهمه في الوقت نفسه. في الواقع، عندما يقتنع الناس حالياً بـ الـ(NFTs) فهم لا يقتنعون بالضبط في واقع المشروع اليوم، بل يستثمرون في احتمال نموّه في المستقبل على أمل أن يكون أكبر بكثير. وهذا مهم جدًا، فالقيمة في العالم الحقيقي، مثل إرث مادونا أو مايكل جاكسون على سبيل المثال، يصعب أن تكون قيمةً في عالم الـ(NFTs) لأنّه يصعب اعتبار أنّها ستنمو بأكثر من 100 ضعف في السنوات المقبلة على الرغم من كونها قيمة لعلامة تجارية ضخمة.

التخطيط للنمو المستقبلي في "ما تعنيه الأشياء لنا" يصبح أهم من مفهوم "الندرة" في عالم الاقتصاد. أي سيكون لنتاجٍ فنّي جيد ينتجه أحد الفنانين بصيغة (NFT) أهمية أكبر في المستقبل، وهذا يفسّر أهمّية قابلية التركيب أو "كومبوزابيليتي" التي ذكرناها سابقًا. ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال، مشروع "لوت" (Loot) الذي أنشأ منظومة حول "الرموز غير القابلة للاستبدال". وهذا أدقّ ما نعرّف به القوى المتسارعة التي تجعل "الرموز غير القابلة للاستبدال" مؤشرًا للنمو السريع في المستقبل.

يعد الويب 3 بمستقبل يمتلكه الجميع وليس شركة من شركات التكنولوجيا الكبرى (فيسبوك، وأمازون، وآبل، ونتفليكس، وغوغل)، وليست الـ(NFTs) إلّا أحد أدوات الملكية الجماعية التي تمكّن المستهلكين من إعادة توحيد الأعمال وتجميعها من أجل إنشاء أنظمة معقدة توفّر مكافآت ذات قيمة كبيرة.

والآن، يمكن أن تفكّر ما علاقة منطقتنا بكلّ هذا. بلغة الاستثمار الجريء، كم يبلغ حجم السوق الذي يمكن أن تصله الـ(NFTs)؟ إلى اليوم، لا يزال عدد المستخدمين النشطين في هذا السوق قليلًا للغاية: مليون محفظة نشطة فقط، غير أنّها تحوي ما يصل إلى 11 تريليون دولار أميركي. من الأسباب الرئيسية أنّ طريقة الالتحاق بركب الويب 3 والـ(NFTs) لا تزال غير فعالة، مثلما حدث في الأيام الأولى للويب 1 الذي كان لامركزيًا، أي قبل وجود خدمات سحابية يمكن البناء عليها مثل "أمازون لخدمات الويب" (AWS) و"غوغل" أو "أزور" (Azure). ولكنّ الويب 3، في الواقع، لا يعتمد على المركزية السحابية نفسها التي اعتدنا عليها مع الويب 2 حيث لم يكن هناك شركات كبرى مثل "غوغل" أو "فيسبوك" لتوفير هوية محددة، أو متاجر تطبيقات مثل "آبل" و"غوغل بلاي"، وكان المعجبون يقومون بترميز صفحات HTML على سيرفرات معدنية. كلّ هذا حدث منذ فترة ليست ببعيدة، وهو ما أدى إلى إنشاء الويب الذي اعتدنا عليه الآن.

يمتلك الويب 3 إمكانات هائلة مقارنة بغيره، ونشير في هذا الصدد إلى أطروحة "ألف معجب حقيقي" (1,000 True Fans). بالتخلّص من تسرّب القيمة إلى الوسيط المذكور آنفًا، وباستخدام  الـ(NFTs) للوصول إلى قاعدة المعجبين من دون القيود التي يفرضها الوسطاء، كم سيكون عدد المعجبين الحقيقيين الذين تحتاجهم لتحقيق أرباح مستدامة؟ في حين قدّم الويب 2 رؤية لحصر منشئي المحتوى ضمن المنصّات من أجل التواصل مع المستخدمين وتحقيق الإيرادات، تتيح الـ(NFTs) طرقًا جديدة للوصول، وبناء المجتمعات، وتحقيق الأموال. ويبدو المستقبل واعدًا لمنشئي المحتوى ورواد الأعمال.

وأنت، ما الذي تريد بناءه؟ وهل ستشارك في هذا العصر الجديد المميّز؟

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات