تمثّلَ الدور التقليدي للمؤسسات الأكاديمية لفترات طويلة في تخريج قوى عاملة تخرج إلى المجتمع مستخدمةً معارفها في عيش حياة ناجحة ضمن مجالات محددة. ولكنّ هذا الدور تغيّر في الآونة الأخيرة بحيث توسّعت برامج هذه المؤسسات لتصبح سبّاقة في البحث والتطوير. ونتيجة لذلك، انتقلت الملكية الفكرية (IP) والابتكارات التي ظهرت داخل حرمها الجامعي إلى الشركات الناشئة والشركات الكبرى لتحولّها إلى قصص نجاح اقتصادية وثقافية.
تتجسّد إحدى هذه القصص في رؤية السعودية 2030 التي تُعدّ مثالًا ممتازًا على تحويل البحوث إلى واقع عن طريق الترويج التجاري. تقوم رؤية السعودية 2030 على ثلاث ركائز، هي مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح؛ ينعكس كلّ منها حالياً في عالم ريادة الأعمال المزدهر بين شبابنا.
ربط الابتكار والشرارة الإبداعية للعالم الأكاديمي بالعالم التجاري ينطوي على فوائد اقتصادية وثقافية طويلة الأجل، لا سيّما وأنّ الابتكارات التي تنتجها العقول الأكاديمية تحاكي العالم والثقافة التي نعيشها اليوم. وبما أنّ هذه العقول هي التي ستواجه المستقبل لمواءمته مع عالم سريع التغيّر، ينبغي لها أن تعمل على بناء الوسائل اللازمة للإبقاء على مجالها قويّ الركائز.
في الآونة الأخيرة، أعلنت "اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار" عن هدفها تعزيز مكانة السعودية من خلال رؤيتها 2030 عبر التركيز على استيعاب البحث الأكاديمي في مشاريع تنموية أكثر قابلية للتطبيق تساهم في الاقتصاد الوطني. وتماشياً مع هذا البرنامج، يزداد عمل جامعات البحوث الحديثة، مثل "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا" (KAUST)، على تحويل البحوث الأكاديمية إلى إبداعات ملموسة ذات تأثير اجتماعي وتطوّر اقتصادي محتمل.
أثبت تسويق البحث الأكاديمي نفسه في جميع أنحاء العالم وفي الكثير من المجالات، من التطوّرات عالية التقنية في تكنولوجيا المعلومات إلى التطوّرات العالمية الهائلة في الطب، كتلك المتعلقة بفيروس كورونا. الكثير من الشركات اليوم لم تعد تعتمد حصريًا على أقسام البحث والتطوير الخاصة بها لابتكار ملكية فكرية جديدة، بل تتّجه هذه الشركات كذلك إلى العقول المبتكرة والمشرقة في المجال الأكاديمي التي تعمل على أفكار بارعة على المستويات النظرية. وفي الوقت الحاضر، لا تموّل الجامعات مثل هذا البحث للتطبيق الموضوعي فحسب، بل تشجع الملتحقين بها على تطوير أفكارهم إلى ملكية فكرية ملموسة، وقد تصل إلى حدّ مساعدتهم في إصدار الترخيص وحماية مشاريعهم. وقد دفع هذا المسعى الأكاديميين إلى نقل أبحاثهم إلى المستوى التالي، أي تقديم عملهم إلى عالم رواد الأعمال والشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة - بمعنى اخر، إليك أنت!
تصدرت المملكة العربية السعودية المشهد فيما يتعلّق بدمج الأوساط الأكاديمية مع ريادة الأعمال، فقد أحرزت المملكة تقدماً في تطوير بيئة داعمة للنمو. وهنا يجب أن نأخذ في الاعتبار العوامل التي أثرت على التحوّل من حالة الأكاديمية البحتة إلى التطبيق الواقعي:
التركيز المستمر على إنشاء بيئة حاضنة ومنظومة للشركات الناشئة، لا سيما في مجال التكنولوجيا، بحيث نضجت هذه المنظومة بسرعة لتصبح مساحة لتعزيز الأبحاث والأفكار وتحقيقها على أرض الواقع.
زيادة تمويل الشركات الناشئة في المملكة العربية السعودية من 8 ملايين دولار في عام 2016 إلى أكثر من 150 مليون دولار في عام 2020، وهو مستمر في الارتفاع.
تكيّف المستهلك مع التكنولوجيا على نطاق واسع، لا سيما وأنّ المملكة العربية السعودية تمتلك شريحة كبيرة من الشباب الشغوفين بالتكنولوجيا والمتحمّسي للخدمات عبر الإنترنت، مما يجعل المملكة هدفاً جذاباً للمسوقين.
تعديل الأنظمة ودعم الهيئات التنظيمية للتركيز على تمكين رواد الأعمال. بفضل هذا الجانب الرئيسي لرؤية 2030، خُفضت نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) واستُبدلت في نهاية المطاف في عام 2018 بإطلاق "الشركة السعودية للاستثمار الجريء"(SVC)، و"صندوق الاستثمارات العامة"، وصندوق الصناديق "جدا" (JADA).
إنشاء "الهيئة العامة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة" (Monshaat) التي تساعد المؤسِّسين الذين يفتقرون إلى الشبكة الشخصية التقليدية من العائلة والأصدقاء الذين يميلون إلى الاستثمار في مثل هذه المشاريع.
تزايد أعداد المبادرات الداعمة للمؤسسين على تنمية ثقافة ريادة الأعمال في السعودية، ممّا انعكس زيادةً كبيرةً في عدد الاستثمارات وازدهار نمو ريادة الأعمال.
مساهمة جدول أعمال رؤية المملكة العربية السعودية 2030 للإصلاح الاجتماعي والتنويع الاقتصادي في توسيع الاستثمار في الترفيه والضيافة والسياحة. تعمل السلطات للمساعدة في تحقيق ذلك على توفير بيئة استثمارية مواتية وتشجيع رواد الأعمال المحليين، وبالتالي المبادرين من الأكاديميين على قيادة تطوير هذه الصناعات.
إذا أردنا قياس مدى نجاح دمج الأوساط الأكاديمية مع ريادة الأعمال داخليًا، ينبغي أن ننظر في أمثلة من خارج الحدود. برز العالم تحقّق عدد لا يحصى من النجاحات في مجالات تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والشركات الناشئة المبتكرة الأخرى. وتعزو هذه المؤسسات إنجازاتها مباشرة إلى البحث الأكاديمي في الجامعات والكليات والعمل التعاوني والتمويل لتطوير مثل هذا البحث إلى نتائج تجارية ملموسة.
يمكن اعتبار وادي السيليكون (Silicon Valley) من أعظم قصص النجاح لتحويل البحث الأكاديمي إلى نجاح تجاري. وعلى مدى العقود الماضية، خرج عددٌ كبيرٌ من الشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا المعلومات وقصص النجاح الريادية، من أميركا والعالم، من مراكز بحثية أكاديمية غنية بالحماسة ولا تحدّ العقول الشابة، بعدما اتّخذت خطوات في وقت مبكر لتحقيق تطورّات جديدة غيّرت اليوم أسلوب حياتنا بأكمله.
ليست الولايات المتحدة وحدها التي شهدت قصص نجاح يمكننا أن نعتبرها نموذجًا نحتذي به، فقد تعاونت "جامعة تشالمرز للتكنولوجيا" (The Chalmers University of Technology) بنجاح مع كبار قادة الصناعة في أمور مثل دمج مبادرات البحث والتطوير الأكاديمية وتحويلها إلى برامج آنية. ومنها عمل الجامعة مع شركة "بريم" (PREEM)، وهي أكبر شركة وقود في السويد، للمشاركة في تطوير وسيلة أكثر فعالية لإنتاج موارد الطاقة واستخدامها.
يتكرّر هذا النمط في جميع أنحاء العالم.
والآن بعدما سردنا بعض الأمثلة على تطبيق الأوساط الأكاديمية الغربية للبحوث في العالم الحقيقي، سأغتنم الفرصة لذكر الإنجازات الهائلة التي حققتها "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا"، والتي دمجت قدراتها الأكاديمية لتطبّقها في عالم الشركات، على غرار المؤسسات الأكاديمية الأخرى.
الطاقة
"نوماد" (NOMADD): "حلّ ميكانيكي ينظف الألواح الشمسية من دون ماء بواسطة روبوتات (تحرّك فرشاة) ذاتية التحكم".
البيئة والغذاء والمياه
"إدامة" (Edama): "إعادة تدوير النفايات العضوية التي تستهدف البيئات الصحراوية باستخدام تقنيات التسميد المختلفة".
"مزارع البحر الأحمر" (Red Sea Farms): "محاصيل ثورية مقاومة للملح، موفرة للطاقة والمياه، وتقدّم أنظمة تبريد وتحكم للزراعة البيئية الخاضعة للرقابة في مناخات قاحلة ورطبة وحارة".
"وياكيت" (Wayakit): "شركة تصنيع مواد التنظيف بالتكنولوجيا الحيوية، تطوّر مركبّات للتنظيف والتعقيم".
الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والروبوتات
"سديم" (Sadeem): "أول حل متكامل يعمل بالطاقة الشمسية في العالم لمراقبة الفيضانات وحركة المرور والاستجابة لها في الوقت الفعلي".
الصحة
"بيب برينت" (PepPrint): "توفر بيب برينت أحدث التقنيات في الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد (3D) ورباعية الأبعاد (4D) لاستخدامها في هندسة الأنسجة والطب التجديدي والتشخيص وفحص الأدوية، لخدمة القطاعين الخاص والعام، أي المستشفيات وشركات الأدوية ومستحضرات التجميل".
عند رؤية هذه الأمثلة، لا يمكن أن يكون هناك شك في أنّ العقول اللامعة وراء عالم البحث الأكاديمي في بلادنا، إلى جانب روح ريادة الأعمال الصحيحة هي مزيج رابح. إن الإمكانات والتقدم عند دمج هذين المجالين سيؤدي بلا شك إلى تغييرات وتحولات إقليمية.
ونحن كأكاديميين نتطلّع باستمرار إلى التعاون مع القادة المبتكرين للمساعدة في تحويل أبحاثنا الأكاديمية إلى قصّة نجاحك التالية.