تشكّل ثقافة ريادة الأعمال ودخول الشباب عالم الاستثمار والتجارة رافدًا هامًّا يزوّد المجتمعات بتجاربَ ثريّةٍ ومتنوّعةٍ من المشاريع، وهي تساعد كثيرًا في سدِّ فجوة البطالة ومعدلاتها من دون الاضطرار إلى التوظيف كحلٍّ وحيد. بل تأتي ريادة الأعمال والتجارة والابتكار بالأفكار حتى يعمل الشباب أنفسهم على خلق فرص العمل لهم وللآخرين، فمشروعٌ واحد قد يخلق سلسلة إمداد لم تكن موجودة أو يحرّك موارد لم تكن مستغلّة، إذ لا ينهض المشروع بالاعتماد على قواه وموارده الذاتيّة فقط دون التحالف مع مزوّدي خدمة آخرين، وهكذا تكون خطوة واحدة دافعةً إلى الأمام ورافعة إلى الأعلى، في فضاءاتٍ من النّجاح والعمل المثمر، والتخطيط الذكيِّ البنّاء.
إنَّ نشر ثقافة ريادة الأعمال وإطلاق المشاريع والتدريب والتشجيع عليها وتحفيز الشباب عبر معسكرات التدريب والتعليم والمسابقات التنافسيّة وحلول التمويل المتعددة والجهات الحاضنة والخدمات الاستشاريّة والإرشاديّة واستمرارها طوال العام وبرعاية جهاتٍ مختلفة، جميعها توفر رحلة متكاملة للشباب والشابات، مما يجعل التفكير بالوظيفة خيارًا غير مطروح لدى بعضهم ممّن ينجح في إطلاق مشروعه وإدارته بطريقةٍ فعّالة وصحيحة.
ومن خلال تجربتي الشخصيّة وإن كانت محدودة فإنّي أقول: عالم ريادة الأعمال بحدِّ ذاته يحتاج بعض المقدّمات قبل الدخول المباشر إليه، لا المقدّمات المعرفيّة والثقافيّة فقط، بل ثمّة احتياجٌ أكبر من ذلك وأهمّ يتعلّق بالساحة العمليّة، أي يحتاج رائد الأعمال وقبل أن يفكّر في إطلاق مشروعٍ متكامل ومستقل أن ينزل إلى الميدان ولكن على طريقة (قياس عمق النهر بقدمٍ واحدة، لا بقدمين).
وخلاصة التجربة هنا أنَّ ريادة الأعمال يُراد بها أن تُردم الهوّة بين الدراسة والوظيفة، لكن بين الدراسة والتمكّن من ريادة الأعمال هناك هوّةٌ أخرى، وهي الافتقار إلى المهارات العمليّة الضروريّة، والاستعداد النّفسيّ للتحدّيات والضغوطات والمنافسات وتقلّبات السوق، والنُّضج في اتخاذ القرارات، وكلُّ هذا يُحتاج معه لحلٍّ لتجسير المسافة، وهذا الحلُّ يكمن بنظري في نشر ثقافة "العمل الحر" أولًا.
إنَّ عالم الاستثمار له أفاقٌ متعددة، بعض هذه الآفاق أقرب من البعض الآخر، وهي آفاقٌ متتابعةٌ تصنع مراحل متصاعدةً وكلّما ارتقينا أكثرَ انكشفت لنا فضاءاتٌ أعلى وأوسع وأرحب، وهذا التدرّج في الصعود يعطي لكل مرحلةٍ وقتها لتنضج التجربة وتُصقل المهارات.
بينما لو كان الصعود عبارةً عن حرقٍ سريعٍ للمراحل، فستصبح التجربة تحت رحمة "الحظِّ" كأيِّ انطلاقةٍ بالمركبة تتجاوز السرعة المعقولة. ولن يكون من المستغرب هنا أن تخرج لنا الإحصائيات اللافتة عن فشل نسبةٍ كبيرةٍ من المشاريع في سنواتها الأولى، لأسبابٍ يعود كثيرٌ منها إلى حداثة الخبرة الإداريّة في ريادة الأعمال وعدم صقل المهارات الضروريّة قبل "دخول السوق"، (إحدى الإحصاءات أشارت إلى أنَّ 90% من الشركات تفشل في أولى سنواتها دون أن نسمع عنها) (1).
ريادة الأعمال تتطلّب استعدادًا ذهنيًّا نفسيًّا وإداريًّا يفوق الاستعداد الذي يسبق الوظيفة بأضعاف كثيرة، فبينما لا تتجاوز مسؤوليّة الموظّف المهامَّ الملقاة على عاتقه لينجزها، مع مواجهة تحدّياتٍ قد تكون روتينيّةً ومألوفة، إلّا أنَّ حياة رائد الأعمال لن تكون وفق هذا النّمط الروتينيِّ وسيجد نفسه يصول في ميادينَ مختلفةٍ ليرسم خططًا ويتخذ قرارات ويتابع منجزات مالية وتسويقية ومحاسبية وتقنية وإدارية وتنفيذية وغيرها، وحين يكون صاحب المشروع قادمًا من تجربةٍ علمية وعملية محدودة في عالم الاستثمار والتجارة والمبيعات وإدارة المشاريع والفرق؛ فستكون هذه الدوائر المتداخلة أشبه بالدوّامة.
إنَّ البداية بالمشروع الفردي حلٌّ وسط مقترح ومناسب، قبل البداية بمشروع ريادة أعمال مكلف ومجهد، وقبل ترك الوظيفة وحتى قبل التخرّج من المرحلة الدراسيّة، حيث يبدأ الشاب بتجربته التجاريّة والاستثماريّة في فترةٍ مبكرة. فتكون البداية بمشروع فرديّ يركّز على اكتساب وتطوير واستثمار المهارات أكثر من أي شيء آخر، وهو العمل الحرُّ الذي أصبح رائجًا ونشطًا على الإنترنت، ويمكن تسخير كل مزايا الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي في سبيل تحقيق هذا الهدف. وبمعنىً آخر: الاستمتاع بالرحلة وتطوير التجربة بعيدًا عن أيِّ نوعٍ من الضغوط التي تداهم روّاد الأعمال عندما يخوضون في بحرٍ عميق من الالتزامات مبكرًا. وأعتقد أنَّ تفعيل المعسكرات والدورات والبرامج التي ترمي إلى تعزيز ثقافة العمل الحر -عبر الإنترنت تحديداً- ضروري للغاية.
وأجدني أطرح هذا الحلَّ بعد تجربةٍ عمليّةٍ كشفت عن مكامن قوّة في المشروع الفرديِّ؛ فالعمل الحرُّ يمكن أن يزوّد صاحبه وهو يمارس نشاطه الاستثماريَّ في الميدان ودون أن يتحمل تكاليف باهظة أو يضطر إلى نقش تفاصيل عميقةٍ في خطّة عمل كبيرة ومتشعّبة ومتعبة تستهلك الوقت وتستنزف الجهد، ومن مكامن تلك القوّة التي تعمل على صقل المهارات وإنضاج الخبرات:
كلُّ ما سبق وأكثر، يمكن أن ندرجه تحت مهارةٍ واحدةٍ رئيسةٍ تجمع هذه المهارات في حقيبةٍ واحدة وهي (البيع).
البيع عالمٌ واسعٌ متشعّبٌ يجمع من المهارات والدروس والكفاءات ما لا يكاد يجتمع تحت مظلةٍ أخرى، والعمل الحر بمسؤوليّاته وضغوطاته المحدودة يتيح لنا الفرصة الكافية للتركيز واستيعاب هذه المدرسة المتكاملة بتفاصيلها وفي وقتٍ معقولٍ وبخسائرَ محدودةٍ للغاية إن كانت هناك خسائر. العمل الحرُّ مدرسة البيع الضروريّة عندما تكون التجربة والخبرة محدودة للدخول إلى عالم ريادة الأعمال بمقاييسه الكبرى، فحين نقضي وقتًا كافيًّا في تجربة العمل الحرِّ ستنضج توقعاتنا ونصبح أكثر استعدادًا من ناحيةٍ علميّةٍ ومهاريّةٍ ونفسيّة.
وختامًا، أجدها فرصةً للتنويه بمبادراتٍ وطنيّة تُعنى بنشرِ ثقافة العمل الحرِّ ودعم مشاريعه واحتضانها بما يساعد الشباب في نيل البداية الجيّدة، ومن أبرزها منصّة (بحر) التابعة لصندوق تنمية الموارد البشريّة -هدف- (2)، وبرنامج تمويل العمل الحرِّ من بنك التنمية الاجتماعيّة (منتج نفاذ) (3) وأكاديميّة منشآت التابعة للهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة (4)، وبالطبع منصّة ووثيقة العمل الحرِّ التابعة لوزارة الموارد البشريّة (5).
المصادر: