التحلّي بالفضولية خلال الأزمات: فرصة المؤسسين في سلسلة التوريد والمشتريات

شهدنا على مدى السنوات العشر الماضية كيف يغيّر الابتكار الكثير من الجوانب المحسوسة في حياتنا اليومية، من طلب المقاضي والبقالة وصولًا إلى الرعاية الطبية. وفي السنوات الثلاث الماضية، تسارع هذا التحوّل بسبب جائحة كوفيد 19 لنرى هذه الموجة الهائلة من الابتكار التي تقود التغيير في مجالٍ يغيب عن أعين الكثيرين منا: المشتريات، وسلسلة التوريد.
يقول المثل إنّ "الحاجة أمّ الاختراع"، والموجة الحالية من الابتكارات في سلسلة التوريد ليست استثناء، فالاستعداد الواسع لتطبيق التكنولوجيا الجديدة غالبًا ما يأتي بعد سلسلة من زعزعة كبيرة ومكلفة في سلسلة التوريد. تشير دراسة حديثة أجرتها "ذا إيكونوميست" (The Economist) إلى أنّ 64% من الشركات أبلغت عن "زعزعة كبيرة في سلسلة التوريد تؤثّر على أعمالها"، ممّا يعني فقدان نحو 4 تريليونات دولار أميركي من الإيرادات.

هذه المشاكل تصبح أسوأ في قطاعات كثيرة أخرى حيث تكافح الشركات لإدارة الأسعار وفائض المخزون والطلبات المرتجعة. على سبيل المثال، قامت شركة "فورد موتور" (Ford Motor) في الربع الأخير وحده بتحديث توجيهاتها العامة حول صعوبات سلسلة التوريد غير المتوقّعة، وبتكلفة إضافية قدرها 1 مليار دولار. في الولايات المتحدة، يملأ مصنّعو المعدّات والمركبات مواقف السيارات الشاغرة بتجميعات "خجولة من حيث الجودة" (في أجزاء قليلة مثلًا)؛ ممّا يعني أنّه لتشغيل الإنتاج المخصّص حسب الطلب، سيتعيّن إعادة إدخالها إلى خطّ التجميع أو إكمالها يدوياً.

ومن الغنيّ عن القول إنّ هذا الواقع لا يمكن أن تتكيّف معه طرق إنتاج التصنيع المنفصل التي صُمّمت وبُنيت لتشغيل عمليات إنتاج خطّيّ يمكن التحكم بها بدقّة كبيرة.

"لا تدع الأزمة تذهب سدى".

الاقتباس الذي كتبه رام إيمانويل (والذي غالباً ما يُنسب خطأً إلى ونستون تشرشل)، يشير إلى أنّ الأزمات توفر فرصةً لإنجاز أمور لم يكن القيام بها من قبل ممكنًا. وبالنسبة إلى روّاد الأعمال الذين يفكرون بطرح حلول عامودية أو أفقية، ينبغي أن يلتفتوا إلى أنّ السوق تتوق إلى طرق جديدة لممارسة الأعمال التجارية المتعلّقة بسلسلة التوريد.

تشتمل مهنة سلسلة التوريد على فرص تكنولوجية لا حصر لها. على سبيل المثال، يتّخذ معظم البيانات المتعلّقة بالأسعار والكميات المنقولة بين المورّدين والمشترين شكل ملفّات "بي دي إف" (Adobe PDF) أو ملفات "إكسل" (Microsoft Excel)، بالإضافة إلى استخدام نظام تبادل البيانات إلكترونيًا (Electronic Data Interchange). كشفت دراسة حديثة أجرتها شركة "تيل بوك" (Tealbook) لبيانات المورّدين أنّ ثلاثة من كلّ خمسة مديري مشتريات لا يزالون يكتبون بيانات المورّدين يدويًا، أو يعتمدون على بيانات رئيسية حُوّلت إلى نظام التسجيل بطريقة يدوية. يؤثّر معدّل الخطأ في الطلبات عادةً على نسبة كبيرة من السلع، ممّا يستتبع مراجعة طلبات الشراء والفواتير بطريقة يدوية تستغرق وقتًا طويلًا. ولكن، بالنظر إلى الحزمة التكنولوجية لسلسلة التوريد، لا عجب أن تواجه الشركات صعوبة في الحصول على الأجزاء والمواد التي تحتاجها للوصول إلى رصيف التحميل الصحيح في الوقت المحدد تمامًا.

استخدام هذه الحزمة التكنولوجية القديمة في وظيفة تجارية بالغة الأهمية يتعارض مع ما يضعه الرؤساء التنفيذيون والمديرون الماليون من أولوية على التضخّم كمحرّك أعمال. وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة "بي دبليو سي" (PwC) أنّ 62% من الرؤساء التنفيذيين الذين شملهم الاستطلاع ينظرون إلى التحوّل الرقمي باعتباره رافعة رئيسية في أعمالهم لإدارة التضخّم. وفي سلسلة التوريد، نظرًا إلى التكاليف الكبيرة التي يصعب إدراكها إلّا بعد فوات الأوان، فليس من الصعب معرفة سبب حدوث ذلك.

حيث يكتسب رواد الأعمال في جميع أنحاء العالم زخماً

حضرتُ في الآونة الأخيرة ندوة في مدينة بنتونفيل الأميركية حول ابتكارات سلسلة التوريد، وقد أبهرني تنوّع الأساليب وكيف تمرّ سلسلة التوريد بأكملها في مرحلة من إعادة التفكير وإعادة التخيّل الجماعية: من تشغيل الخدمات اللوجستية في الميل الأخير على الكهرباء، واستخدام الروبوتات في المستودعات لاختيار السلع وتغليفها تحضيرًا لبيعها بالتجزئة، وصولًا إلى تجميع طبليات التحميل بذكاء لتحميل الشاحنات وتفريغها.

بشكل عام، تدور أكبر ثلاثة محرّكات لإعادة التفكير هذه حول ما يلي:

مراقبة الأصول والنقل في كل مكان وفي الوقت الفعلي: استشعار المساحات والمعدّات عن طريق ما يُعرف غالباً باسم "إنترنت الأشياء" (Internet of Things) يتيح تتبّع الأصول ومراقبتها، من حاويات الشحن إلى الطرود الفردية، بالإضافة إلى الفيديو المباشر الذي يترافق مع مراقبة من الذكاء الاصطناعي من أجل التعرّف على الأنماط التي قد تحتاج إلى التدخّل في وقت مبكر وبصورة متكرّرة. تتيح أنظمة التحكّم هذه أيضًا إمكانية تغيير تصميم المستودعات ومحطّات الشحن ومراكز التوزيع والتسليم، بالإضافة إلى تفكيك نماذج التوزيع من أجل تسريع عملية التسليم المباشر إلى المستهلك التي  تنافسها خدمة "التسليم خلال يومين من أمازون".

كل شيء مستقلّ ويعمل بالكهرباء: يزداد تحوّل المركبات، من شاحنات وناقلات ركّاب وسيارات وجرّارات، إلى مركبات كهربائية ومستقلة في الآن نفسه، ممّا أدّى إلى إعادة التفكير في سلسلة إمداد المركبات بأكملها وفهم المركبات نفسها على أنّها منصّات برمجية. مهّدت شركة "تسلا" (Tesla) الطريق لإعادة تصوّر جماعي لمركبةٍ يمكن تحديثها عن بُعد باستخدام برنامج يوفّر إمكانات جديدة ويقدّم مزايا جديدة بطريقة مشابهة لتحديثات برامج هاتف "آيفون". ونظراً لأنّ هذا النموذج يتيح التحسين المستمرّ لأنظمة الذكاء التكيّفية التي تدعم قدرات القيادة الذاتية (إلى جانب الحركة الذاتية لروبوتات المصانع)، يؤمل أن يكون مجالًا مثمرًا للابتكار عبر سلسلة التوريد.

البيانات التنبؤية في الوقت الفعلي: الاعتماد على بنية تحتية قديمة للبيانات يؤدّي غالبًا إلى التعثّر ببعض أكثر العقبات والعزلات إحباطًا في سلسلة التوريد. أمّا البنية التحتية الجديدة التي تسمح بإجراء مقارنات بين سلاسل التوريد والعمليات في الوقت الفعلي، فيمكنها اتّخاذ قرارات تنبؤية ذات تأثير تجاري حقيقي. وبما أنّ التوقيت غالبًا ما يكون العامل الأبرز في أداء سلسلة التوريد، سواء كان معالجة المدفوعات أو تثبيت سعة الشاحنة، أو تقديم طلب للتخصيص النادر للمواد، فإن القدرة على الإسراع في اتّخاذ المزيد من القرارات (أو حتى تحويل عملية أحادية النسق إلى عملية تعالج عدة أمور بالتوازي) تتيح فرصة مغرية للمبتكرين. ستؤثّر هذه الثورة التنبؤية، كما نرى، على كلّ مجال من مجالات سلسلة التوريد  تقريبًا، بدءًا من المصادر الاستراتيجية والمشتريات وصولًا إلى تخطيط الإنتاج.

رواد الأعمال: تحلّوا بالفضولية واقضوا الوقت مع فرق المشتريات وسلسلة التوريد

من الطرق التي رأيتُ رواد الأعمال ينجحون بها، هي التعّمق في معرفة المشكلة التي يريدون أن تحلّها تقنياتهم. ومع ذلك، قد تبدو مشاكل سلسلة التوريد والمشتريات، بالنسبة للكثير من روّاد الأعمال ومؤسِّسي الشركات، مشاكل وإدارية معقدة. ولكنّ الحلّ بسيط: قضاء الوقت في مراقبة سلسلة المشتريات والتوريد والتعرّف على ما في داخلها من عمليات تجارية آخذة بالتطوّر والتعرّف أكثر على فِرَق العمل في هذا المجال والتواصل معهم، ممّا يوفّر فرصًا لتجربة مناهج جديدة عزّزتها تحوّلات أكبر في المشهد التكنولوجي.

يقول بول غراهام، رائد الأعمال والمستشار مع مسرّعة الأعمال العالمية "واي كومبينايتور" (Y Combinator): "افعل الأشياء التي لا يمكن القيام بها على نطاق واسع"؛ وهو يشير تحديدًا إلى الطريقة التي يجنّد فيها روّد الأعمال المستخدمين يدويًا، وإنجاز المشاريع الاستشارية، واختبار الحلول التي يقدّمونها في عدّة أماكن تمهيدًا الخروج بها إلى الميدان. ومن الأمثلة على ذلك، ما فعله مؤسّسو شركة "سترايب" (Stripe) لمعالجة المدفوعات حيث عملوا على بتثبيت الحلّ يدوياً من خلال الجلوس على أجهزة الكمبيوتر المحمولة لمستخدمي التجارة الإلكترونية. ومؤسّسو "إر بي إن بي" (Airbnb) طرقوا الكثير من أبواب المنازل في نيويورك لتسجيل الناس في منصّتهم. والآن، أصبحت هذه الشركات كبيرة جدًا وانتشارها واسع للغاية إلى درجة يصعب فيها تذكّر أنّها بدون هذه الجهود كان يمكن ألّا تنهض أبدًا.

في "أركسترو" (Arkestro)، وجدنا طرقًا للتنبؤ بملايين الأسعار والتحقّق من صحّتها لخدمة فرَق المشتريات في أيامنا الأولى، من خلال عرض خدماتنا على الشركات الكبيرة التي كانت تعاني من تراكم أعمال المشتريات، وذلك عن طريق طرح السؤال التالي: "هل يمكننا المساعدة في التوصّل إلى النتيجة التي ترغبونها إنّما بخطوات أقل؟" بالنسبة للشركات التي كانت تستغرق أسابيع أو شهورًا للحصول على عروض أسعار لآلاف السلع ومقارنتها، ساهمت خدمات إدارة المشتريات التنبؤية من شركة "أركسترو" في تغيير علاقاتها مع المورّدين بصورة كبيرة. ساعدَنا الاستماع إلى العملاء الأوائل على إجراء الكثير من التحسينات والتوصّل إلى قناعة بأنّ نشر هذه التكنولوجيا بطريقة صحيحة لا يتمثّل في إطلاقها كتطبيق بل كمنصّة مدمجة تعيش داخل أنظمةٍ كان عملاؤنا يستخدمونها بالفعل، مثل "كوبا" (Coupa) و"أريبا" (Ariba) و"ساب" (SAP) و"أوراكل" (Oracle) وغيرها. لم نتعلّم ذلك من خلال الاستماع إلى عملائنا فقط، بل بالاستماع كذلك إلى مورّدي عملائنا الذين لم يرغبوا في التعامل مع تطبيق آخر.

كانت لحظة التوصّل إلى بناء "منصة مدمجة" بمثابة إضافة قيمة هائلة لمنظومة "أركسترو" بأكملها، ما سمح لنا بالتركيز على تحسين جودة نماذجنا التنبؤية للتسعير واختيار الموردين وتقسيم الحصص. على الرغم من خبرة فريقنا في هذا المجال، لم نكن لندرك هذه الفرصة أبدًا لولا التعاون الوثيق مع عملائنا. أمّا رواد الأعمال الذين يفكّرون في بناء حلول لفرق المشتريات وسلسلة التوريد، فأوصيهم بقضاء وقت إضافي في التعرّف على المشكلة، واختبار الحلّ، وإثبات فعالية استخدامه في أضيق مجال ممكن.  بسبب أزمة سلسلة التوريد والمطالب المحلّة الناجمة عنها، قد تجد مجموعة من المتحمّسين المستعدّين لتجربة الحلّ الذي تقدّمه وفي العالم الحقيقي، في وقت أبكر بكثير ممّا تعتقد.

logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات