الحريّة الفنيّة

فرح العناد – مسار الجوف
هذا المقال بقلم أحد المشاركين المتميزين في برنامج صوت الشباب. صوت الشباب برنامج إثرائي يهدف لإشراك الشباب من مختلف أنحاء المملكة في عدد من الندوات واللقاءات التدريبية والحوارية التي تركز بشكل رئيس على مهارات التواصل والإقناع والتفكير النقدي

يقول فؤاد كمال عن الفنّ: الفنُّ موردٌ من مواردِ الحبِّ والنور، شهيٌّ عذبٌ حسَنُ المورد، الفنُّ أيكةٌ عاشَ فيها بلبلُ القلبِ بين نايٍ وعُود.

إنَّ الفنّان باختصارٍ شخصٌ قفزَ على سور العادة، وظلَّ يبحث ويفتّش عن المثيرات داخله، وكوَّنَ كينونته الإبداعيّة وصنعها على عين الجمال وفي حماه. وتوغّل في عمق الإبداع ليُجمّلَ صورة العوالم. وقد التمستُ في مقالي أنْ أرصد مجتمع الفنّانين، وأتأمّل حالهم ومقالهم وما مرّوا به وعرفوه. إنَّ رحلة خيال فنّانٍ ما تختلف تمامًا عن رحلة فنّانٍ غيره؛ فرحلتي بدأت منذ براعم الطفولة أمام شاشة التلفاز. ولكنَّ ما يجمعُ الفنّانين تجربتهم المضيئة بشمس الخيال، وأنوار الدهشة، فتظهر له فكرةٌ تطوف بذهنه وتعصف بعقله، وتخلق شيئًا فريدًا مميّزًا، يثير إعجابه ويلفتُ نظره ويسرق اهتمامه.

إنَّ رسالة الفنِّ كما يقول جويند تتمثّل في كيفية التقاط العالم ببراعةٍ لا العالم المادي فقط، فذاك صنيع العلم، بل العالم ككلّ، وتحديدًا العالم الإنساني، عالم التجربة البشريّة والتجربة الروحيّة.

فالفنُّ لا يتعلّق بإنتاج أشياء جميلة فقط، ففي وسع الفنِّ إثارة مشاعر أخرى كالقلق والضحك والدهشة أو السخرية أو الأمل أو اليأس أو الإعجاب أو النّفور. قد يبدو العمل الفنيُّ مباشرًا وقد يكون معقّدًا أو غامضًا، لكنَّ المقاربات والموضوعات التي أفضت إلى خلق العمل الفنيِّ ترتبطُ بمخيّلة الفنّان فقط. فلوحة "الصرخة" الشهيرة مثلًا للفنّان إدفارت مونك، رُسِمت بعد تجربةٍ نفسيّةٍ مريرةٍ قاتمة، لكنّنا في الحقيقة لا نعرف ما هو الشعور الذي أنتج هذه اللوحة تحديدًا. وكذا الموسيقى، أيًّا كان لونها أو نوعها، فنحن لا نعرف معناها، وإنّما نستمتع بجمال أنغامها، ولا يعرف كُنهها وما ورائيّاتها سوى الفنّان نفسِه، فالفنُّ مرآةٌ عاكسةٌ لمشاعر مبدعيه.

تختلف اهتمامات النّاس وتتفاوت، ويظلُّ الإبداع الابتكاريُّ فريدًا لأنّه يخلق عملًا مميّز من وحي خيالات الفنّان، أمّا الأعمال الروتينيّة فمهما بدت جميلةً ولافتة فهي لا تحتاج سوى للبراعة، وقد تفتقر للإبداع وسعة الخيال.

يعيش الفنّان عالمًا لا يراه غيره، يُبحر فيه بخياله دون حدود، ويحلّق فيه. وقد ألهمني كثيرًا كتاب: (حياة الفنّانين) حيث يبحث في حياة الرسّامين والمهندسين والنحّاتين، وعن طريقه عرفت أنَّ لكلِّ فنّانٍ حياةً إبداعيّةً تخصّه. "إنَّ كتاب حياة الفنّانين قاموسٌ للرسّامين والنحّاتين والبنّائين القدماء، كتبه جورجيو فاساري وهو مهندسٌ فلورنسيّ وأحد تلاميذ العظيم مايكل أنجلو. صدر هذا الكتاب عام 1594م؛ فاعتُمِدَ من قبل أساتذة الجامعة مرجعًا لتاريخ الفنون. واعتُبرَ أهمَّ كتابٍ تحدّث عن النهضة الإيطاليّة. تحدّث فيه  فاساري عن قرابة 200 رسّام ونحّات ومهندس." 

قد يرى الفنّان الإحباط والتشجيع في حياته، لكنَّ محرّك الإبداع داخله لا يتوقّف، ووقود الشغف لا يموت.

يعتقد بعض النّاس أنَّ الفنَّ نوعٌ من الرفاهية، وفي الحقيقة فإنَّ الفنون بكلِّ أشكالها هي أساس وجدان الشعوب، فبها يُخلق الوعيُ، ويُبعث الفكرُ. إنَّ صلاح الفنون مع وجود النفوذ المحقّق لترسيخها وتجذيرها في المجتمع يعني صلاح المجتمع والارتقاء بذائقته وأخلاقيّاته. وحتمية البناء الصالح للفنِّ ترتبط أوّلًا بصلاح صنّاعه.

وحين يُبدع الفنّان عملًا يُثير المجتمعَ؛ فقد يُرفض وقد يُقبل، فبعض المجتمعات المنغلقة لا تحبّذُ ما هو خارجٌ عن نطاق تفكيرها، فيبدأ الأفراد بالتشكيك في هويّة الفنّان، ممّا يدفعه للتمرّد، أو يُنهي حياته بالعزلة وقطع الإنتاجيّة. جاء في جريدة الجزيرة: "يعمل الفنُّ الحديث على تقديم الأفكار والمشاعر والعواطف بطرقٍ جديدةٍ بناءً على التجارب الشخصيّة، وبعيدًا عن الأفكار الكلاسيكيّة التي تُسلّم بالعقل الجمعيِّ، ولا تدعم الفردانيّة."

ومن ناحيةٍ أخرى فقد زاد الإقبال على الفنِّ الحديث، نظرًا للتطوّرات العالميّة، وأصبح الجديد مرغوبًا، وصارت الدول والمجتمعات تشجّعُ الفنَّ، وأُنشئت مؤسّساتٌ تهتمُّ برعايته وتطويره. وسأتحدّث الآن عن منصّة "فنّ جميل" للأبحاث والممارسات الفنيّة، فقد جاءت هذه المنصّة أثناء حملة مواجهة آثار جائحة كورونا على الفنّانين المستقلّين والكتّاب والبحاثين في الفنون، تُقدّم المنصّة الدعمَ للمشاريع الجديدة أو المستمرّة، مع مبالغ تصل إلى 3000 دولار لكلِّ فنّان. ومن الجهات الداعمة للفنّ في المملكة "الجمعيّة السعوديّة للفنون التشكيليّة" وهي مؤسّسةٌ ثقافيّةٌ غير ربحيّة، تتميّز الجمعيّة باستقلالها الإداريِّ والماليِّ، وقد أُنشئت بقرارٍ من معالي وزير الثقافة.

 

المراجع:

  1. الفنّانون أحد أعمدة رؤية 2030 في السعوديّة، رؤىَ فريدةٌ للفنون وهدم للتاريخ: كيف أثّرت الحداثة على الفنّ؟ مجلة الجزيرة.
  2. الفنّانون المعاصرون في العالم العربي: ناجون من عصر الأزمات.
logo

كن على إطلاع بآخر المستجدات

اشترك في نشرتنا الإخبارية واحصل على مستجدات البرامج والفعاليات